كتاب

من يتذكر باندونغ.. بعد مرور سبعين عاماً؟

نعم هناك كثيرون لا يزالون يتذكرون ذلك التاريخ المجيد في باندونغ، الرابع والعشرين من نيسان ١٩٥٥، حين نجح الاحرار الشجعان من قادة ٢٩ دولة في قارتي آسيا وافريقيا، يتقدمهم جواهرلال نهرو (الهند) وشو إن لاي (الصين) وجمال عبد الناصر (مصر) وكوامي انكروما (غانا)،بمشاركة فاعلة من جوزيف بروس تيتو (يوغوسلافيا)، وبرئاسة احمد سوكارنو(رئيس إندونيسيا الدولة المضيفة)، نجحوا بعقد مؤتمر عدم الانحياز في مدينة باندونغ رغم معارضة محمومة وتآمر لايتوقف من قبل دول الغرب الاستعماري وأجهزتها الاستخباراتية،وبتوجيه مباشر يومذاك من وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دلاس! وقد احتفى بنجاحه المدوّي بعد ذلك ببضع سنوات الثائر العالمي الأسود مالكولم اكس فوصفه بانه ((اول مؤتمر للملونين في تاريخ البشرية لم يخطط له ويسيطر عليه الاستعماريون البيض))!.. وفي الشهر الماضي بمناسبة مرور سبعين عاما على إعلان باندونغ بثت قناة ديموكراسي ناو المستقلة من نيويورك برنامجا وثائقيا خاصا تحدث فيه الكاتب الهندي الكبير ڤيجاي براشاد فقال إن روحا جديدة من التحدي والتمرد قد بدأت بالظهور عقب ذلك المؤتمر،على شكل حركات ثورية جديدة فجّرتها تباعاً شعوبٌ عديدة حول العالم فحققت تحررها الوطني من استعمار دول غربية كانت تحتل اراضيها وتنهب ثرواتها الطبيعية منذ مئات السنين،لكن هذه الاخيرة استطاعت بعد وقت غير طويل مع الأسف أن تدبر في بعضها انقلابات عسكرية دامية أطاحت بانكروما في غانا عام ١٩٦١ وبسوكارنو عام ١٩٦٥ في إندونيسيا وبلغ عدد الضحايا مليونا ًمن مواطنيها،ثم اخيرا وليس آخرا اغتيال باتريس لومومبا عام ١٩٦١ في الكونغو جهارا نهارًا على يد البلجيكيين !
نعم، فانا واحد من أولئك الكثيرين الذين ما زالوا يتذكرون باندونغ جيدا، وقد شهدتُ حينها كيف شكل انعطافة بالغة الاهمية في منطقتنا العربية خاصة في مصر حيث كنت ادرس، وكيف رسّخ موقف عبد الناصر كاحد أبرز قادة المؤتمر بسياسته التقدمية، وشعبيته الاصيلة كزعيم لثورة يوليو ١٩٥٢.. وسأروي هنا من الذاكرة بعض انطباعات عايشتها وكانت حساسة عصية على التطرق لها في العلن، اذ كنت انتمي لتنظيم طلابي اردني في مصر يتبنى الثقافة الماركسية ويتأثر برأي متداول في صفوف أصدقاء لنا من طليعة الجيل الجديد من الصحفيين المصريين التقدميين،نلتقي بهم ونقرأ لهم ونناقشهم احيانا فيما يكتبون أمثال احمد بهاء الدين وإحسان عبد القدوس ومحمود امين العالم وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ وعبد الرحمن الخميسي ويوسف إدريس وخالد محمد خالد، وذاك الرأي كان انعكاساً لمخاوف تشكك بان ثورة عبد الناصر ربما كانت انقلاباً عسكرياً مدعوماً (او مرحّباً به على الاقل) من قبل امريكا، وليس بالضرورة كانقلابات سوريا في السنوات الاربع السابقة التي كان معروفاً انها من تدبير استخبارات فرنسا فبريطانيا فالولايات المتحدة على التوالي، وهي مخاوف كان يوحي بها مصطفي امين في كتابه ((امريكا الضاحكة)) وفي صحف ((أخبار اليوم))الممولة من الاستخبارات الاميركية، منذ ما قبل الثورة بسنوات عديدة لاهداف خبيثة مختلفة، كالتمهيد والتحضير لاستقبال الاستعمار الاميركي الجديد في مصر خلفاً للبريطاني الآفل، وقد تبيّن لاحقا عدم واقعية تلك المخاوف.
كان تنظيمنا في ذلك العام الدراسي قد اعفى اعضاءه من طلاب السنوات النهائية (وكنت احدهم) من القيام باي نشاط سياسي قد يشغلهم عن امتحاناتهم فيضيع مستقبلهم، او يؤدي إلى اعتقالهم خارج بلدهم ! لكننا وجدنا أنفسنا تلقائياً ودون اي قرار تنظيمي نعود للنشاط مندفعين للشوارع بحماس كبير كي نشارك في التظاهرات الشعبية الحاشدة التي خرجت لاستقبال البطل العائد من باندونغ !!
وبعد..هل هي مجرد ذكريات عَبَرتْ وامّحت آثارها، أم سطور قليلة في سِفرٍ كبير مازال أصحابه يغذّون السير واثقي الخطى نحو الهدف الانساني العظيم؟!ومازالت فلسطين هي البوصلة،ومازالت ايضا ورقة الليتماس لاختبار الخلق النضالي التضامني كما نعتتها الشاعرة الافريقية الاميركية الراحلة جون جوردان بعد مجزرة صبرا وشاتيلا،عام١٩٨٢،وترددها هذه الايام كمرجعيّة من بعدها الثائرة الباسلة انجيلا ديفيس.