في كل دولة تسعى إلى النهضة، تبدأ القصة من المدرسة، وتبدأ المدرسة من المعلم. لكن المعلم لا يُولد مؤهلًا، بل يُصنع في مؤسسات الإعداد، ويُصقل بالتدريب المستمر. ومن هنا، فإن أي حديث عن إصلاح التعليم في الأردن لا يكتمل دون التوقف طويلًا أمام منظومة إعداد وتدريب المعلمين، باعتبارها القاعدة الأولى في بناء تعليم ذي جودة، ومخرجات بشرية قادرة على المنافسة والإبداع.
لقد شهد الأردن خلال العقود الماضية توسعًا في أعداد المعلمين، وتطورًا في أشكال التدريب، لكن ذلك لم يكن دائمًا مصحوبًا بنقلة نوعية في جودة الإعداد. فما زالت كليات التربية في كثير من الجامعات تعمل ضمن نماذج تقليدية، تعتمد على التلقين النظري أكثر من المهارات العملية، وتفتقر غالبًا إلى الشراكة الحقيقية مع الميدان المدرسي. كما أن معايير القبول فيها لا تستهدف دائمًا جذب الأكثر تميزًا، مما أضعف البنية التكوينية للمعلم منذ لحظة التحاقه بالمهنة.
والأخطر من ذلك أن التدريب أثناء الخدمة، الذي يُفترض أن يكون أداة تحديث وتطوير، يعاني في كثير من الأحيان من ضعف المحتوى، وعدم ارتباطه باحتياجات المعلّم الفعلية في الصف، وغياب الحوافز، وافتقار آليات التقييم والمتابعة. هكذا، يتحوّل التدريب إلى إجراء شكلي، لا إلى مسار مهني حقيقي يعزز من جودة الأداء ويرفع من مكانة المعلم.
ما تحتاجه منظومة الإعداد في الأردن اليوم هو إعادة صياغة كاملة لمفهوم «المدرسة التربوية». نحتاج إلى كليات تربية نخبوية، لا تكتفي بمنح الشهادات، بل تُعدّ المعلمين كقادة تغيير ومبدعين تربويين. نحتاج إلى نموذج انتقائي، يشترط التفوق الأكاديمي، ويُرفق الدراسة النظرية بالتدريب العملي المكثف، داخل مدارس مختارة، بإشراف أكاديميين ذوي خبرة ميدانية. نحتاج إلى تأهيل تربوي حقيقي لمن يلتحقون بالتعليم من تخصصات غير تربوية، يضمن التحوّل لا مجرد التحاق إداري بالمهنة.
أما التدريب أثناء الخدمة، فيجب أن يُعاد تصميمه ليكون جزءًا من المسار المهني لا عبئًا إداريًا. ينبغي أن يكون مخصصًا ومُصمّمًا حسب احتياجات كل مرحلة تعليمية ومادة دراسية، وأن يُدار من خلال مراكز تدريب إقليمية متخصصة، تواكب التغييرات التربوية العالمية، وتمنح شهادات معترفًا بها، مرتبطة بمستوى الأجور والترقيات.
إن إصلاح منظومة الإعداد والتدريب لا يعني فقط تحسين أداء المعلم داخل الصف، بل هو أساس لاستعادة هيبة المهنة، ورفع جاذبيتها لدى الشباب، وضمان استدامة الجودة في التعليم. فلا يمكن للمعلم أن يُبدع إذا لم يُجهَّز جيدًا، ولا أن يُلهم إذا لم يشعر بأنه مؤهّل ومقدّر ومتابَع.
من هنا، فإن هذه القضية ليست تفصيلًا فنيًا، بل خيارًا وطنيًا. إصلاح إعداد المعلمين هو بداية إصلاح النظام التعليمي كله. والمعلم الذي نُعدّه اليوم هو من سيبني مجتمع الغد.
فهل نملك الشجاعة لنبدأ من حيث يجب؟ وهل آن للمعلم أن يُعامَل كما يجب منذ يومه الأول في الكلية، لا في لحظة دخوله إلى الصف فقط؟
