منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول 2023 والكيان الصهيوني لا يكفُّ عن الحديث عن خوضه حرباً (وجوديّة) في وصفه للعدوان الوحشيّ الغاشم الذي يشنّه على أطفال غزّة ونسائها وشيوخها ومرضاها ومبانيها باستخدام كلّ ما يمتلكه من وسائل القتل والحرق والتدمير والحصار والتجويع والتعطيش وغير ذلك.
والمقصودبالحرب الوجودية هي الحرب التي تنتهي بزوال من يخوضها أو ببقائه قيد الوجود، وتكرار هذا الوصف مراراً على ألسنة زعماء الاحتلال له معانٍ وأبعادٌ ودلالات خطيرة، وقد لا يكون كثير من القيادات العربيّة والعالمية قد تنبّهوا إلى خطورة هذا الوصف وأبعاده المتوقّعة؛ فالكيان الصهيوني، وإن كان يملك من الإمكانيّات العسكريّة، والأسلحة المتطوّرة والتكنولوجيا المعقّدة ووسائل التجسّس الحديثة المتنوّعة ودعم القوى العظمى ما يجعله متفوّقاً على جميع من يهدّدونه وقادراً على هزيمتهم، إلاّ أنّه مع ذلك يفتقر إلى الشعور بالأمن ?الاستقرار واليقين والقدرة على البقاء والاستمرار، وقد عززت عمليّة طوفان الأقصى هذا الشعور لديه حيث إنّه رغم سكون الجبهات القريبة والبعيدة عنه، إلاّ أنّه يحسب ألف حساب لمفاجأةٍ لم يكن يتوقّعها تأتيه من هذا البلد العربي أو ذاك أو هذا الفصيل المقاوم أو ذاك كالذي وقع له في السابع من تشرين الأول (أكتوبر).
ولذا فإنّ الحرب التي يزعم أنّه يخوضها ليست حرباً ضدّ قوى عسكريّة جبّارة ولا ضدّ دولٍ تملك جيوشاً جرّارة، إنّما هي حربٌ يخوضها ضدّ شعوره بالقلق والخوف وعدم الثقة بالبقاء في أرض انتزعها بالكيد والتآمر والاحتيال والسرقة من أهلها الأصليين. لكنّه يحاول أن يجسّد هذا العدوّ الوهمي في عدوٍّ حقيقيّ فتراه يرتكب المجازر في غزّة ضدّ الأطفال والنساء والمرضى والعجزة ويتهمهم بالإرهاب وأنّهم يشكّلون خطراً على أمنه وأمن (مواطنيه)، وتراه كذلك يبحث في أيّ بلدٍ عربيّ أو إسلامي عن أي قطعة سلاح ليقوم بقصف حاملها بالطائرات في عر?دة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، ويسمّى ذلك كلّه حرباً وجوديّة.
إنّ مكمن الخطورة في هذا المسمّى الذي يصرّ الصهاينة على إطلاقه على عدوانهم الوحشي هو ما يعنيه أن يكون بلدٌ أو شعبٌ منخرطاَ في حرب وجودية، أي حرب بقاء أو زوال ولا سيّما إذا كانت احتماليّة نتيجة الحرب بالزوال احتمالية عالية وتقوم عليها مؤشرات ودلائل، فزوال هذا الاحتلال أمر حتميّ عاجلاً أو آجلاً.
ولمــّا كان الصهاينة يدركون في قرارة أنفسهم أنّهم إلى زوال، أي أنّ حربهم الوجودية- كما يصفونها- لن تضمن لهم البقاء، ولا يمكنها أن تزيل التهديد الذي يشكّله الواقع الجغرافي والسكاني والتاريخي والثقافي لوجودهم في محيطٍ يختلفون عنه كلّ الاختلاف، ولمــّا كانوا يملكون من وسائلالدفاع عن البقاء أدوات خطيرة، فإنّ وصفهم للحرب بالوجوديّة هو شكلٌ من أشكال التهديد ليس فقط لأهل غزّة ولا لأهل فلسطين وحدهم ولا للدول العربية المجاورة فقط، بل هو تهديد لكل من يشكّل خطراً مستقبلياً أو تهديداً محتملاً في الزمن القريب أو البعيد?
وإلى جانب ما ينطوي عليه هذا الوصف للحرب بالوجودية من تهديد مبطّن لدول المنطقة، فإنّه يقدّم ذريعة للاحتلال لارتكاب ما يحلو له من الجرائم والمجازر في أيّ مكان وبأيّ صورة من الصور، فمن يكون وجوده مهدّداً بالزوال ويملك سلاحاً تدميرياً أو سلاح دمار شامل قد لا يتردّد في استعمال هذا السلاح ضدّ خصمه، مع أنّ ما يستعمله الإسرائيليون حالياً في غزّة في حرب الإبادة التي يشنّونها على أهلها لا يقلّ في حجمه وآثاره ووحشيته عن استخدام أسلحة الدمار الشامل.
ولذلك فإنّ من واجب العرب أيّاً كانت مواقفهم أو مواقعهم أو اتجاهاتهم أو تحالفاتهم أن لا يستهينوا بهذا الأمر، وأن يأخذوا هذا التهديد مأخذ الجدّ، ولا يصحّ أن يتغاضوا عنه بأيّ حال، ولا سيّما أن عدوّهم لا تردعه أخلاق ولا قوانين ولا ضمير ولا شرائع، وأنّه يستسيغ الإجرام والمبالغة فيه وأنّ يده وثقافته وتاريخه كلّها ملطّخةٌ بدماء الأبرياء، وأنّه كلّما طال السكوتُ عليه ازداد تماديه على هذه الأمّة وأوطانها وأبنائها وحقوقها، وازداد تجرّؤه عليها وتعطّشه لسفك دمائها باستخدام كلّ ما يملكه من وسائل الإبادة والتدمير.