في بداية عام 2025، لم يكن المشهد الاقتصادي في الأردن مجرد أرقام وإحصائيات، بل كان إعلانًا صريحًا عن ولادة سوق جديدة بقواعد مختلفة. انخفاض المخالفات التجارية بنسبة 26% خلال الأشهر الأربعة الأولى لم يكن مجرد إنجاز رقابي، بل كان بمثابة صافرة البداية لحقبة تعتمد على القيم قبل الأرباح، وعلى الابتكار قبل التقليد.
إنّ تحسن بيئة السوق أرسل رسالة واضحة لكل من يفكر أن يواصل العمل بأساليب الأمس: انتهى زمن البيع السريع، وبدأ زمن بناء القيمة الحقيقية. الثقة لم تعد شعارًا يُرفع في الإعلانات بل أصبحت عملة السوق الجديدة، ومن لا يمتلكها لا مكان له وسط سوق يتعلم المستهلكون فيه بسرعة وينقلون خبراتهم بشكل أسرع.
الشركات التي ستقود المشهد الجديد هي تلك التي تفهم أن المنافسة ليست معركة مؤقتة، بل حالة دائمة من التطور الذكي. في سوق أكثر تنظيمًا، تسقط أوراق اللعب التقليدية القائمة على التلاعب بالأسعار أو التحكم في القنوات، ويبرز من يستثمر في بناء منتجات قوية، وخدمات مبتكرة، وتجارب استثنائية للعميل. هنا، لم يعد التسويق مجرد أداة لدفع المبيعات، بل أصبح هندسة متكاملة لإعادة تشكيل العلاقة بين العلامة التجارية والمستهلك.
في هذا المناخ، التسعير لم يعد لعبة تعتمد على التخمين أو مجاراة المنافسين بشكل أعمى. بل صار علمًا دقيقًا يتطلب تحليلًا عميقًا للسوق، سلوك المستهلك، مرونته السعرية، وحجم القيمة المدركة. الأسعار اليوم تُبنى على استراتيجية، لا على رد فعل، وعلى فهم للمشهد الكامل، لا على جزء معزول منه.
أما من يتحدث عن الرقمنة كخيار إضافي، فهو لم يفهم بعد قواعد اللعبة الجديدة. في سوق تتسارع فيه التحولات، تصبح التقنيات الرقمية العمود الفقري للتسويق الفعال، لا مجرد وسيلة تكميلية. هنا، البيانات لا تُجمع عبثًا، بل تتحول إلى رؤى، والحملات الإعلانية لا تُبنى على الحدس، بل على علم وتحليل لحظي لمزاج السوق وتقلباته.
وفي وسط كل هذه التحولات، تبرز الثقة كالسلاح الأقوى. المستهلك الأردني لم يعد يقبل النصف حقائق، أو الوعود البراقة التي تتلاشى عند أول تجربة. يريد وعدًا يتحقق، وقيمة يلمسها، وتجربة تصنع الفرق. الشركات القادرة على تحويل هذه القيم إلى واقع ملموس ستملك سوقًا لا تحدّه الأسعار ولا تغريه العروض المؤقتة.
ما يحدث في الأردن اليوم ليس مجرد تحسن اقتصادي، بل تحول ثقافي في منطق السوق نفسه. الشركات التي تدرك أن السوق صار ملعبًا للاحتراف لا للهواة، ستصنع الفارق. أما من يصر على البقاء داخل قوقعة الطرق القديمة، فسيفقد مكانه لصالح من فهم أن اللعبة تغيرت، وأن المستقبل لا ينتظر أحدًا.
استاذ التسويق الدولي في الجامعة الاردنية
