أن تقود سيارتك في شوارعنا، فهذه ليست مجرد رحلة عادية من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، بل هي مغامرة كاملة العناصر: إثارة.. تشويق.. كوميديا سوداء، وشيء من الرعب أحيانا، تجربة يومية تمتحن صبرك وعقلك، لغياب شيء مهم جدا كما اعتقد، هي «الثقافة المرورية» عند قائدي المركبات، هذا الغياب يضعك في حيرة لفهم السلوك المروري الذي يتكرر في كل رحلة قيادة حتى ولو كانت لشراء علبة لبن روب لاستكمال طبخة «الجعاجيل»، حتى تكاد تصدق أنها جزء من المنهاج الوطني، وكأننا ورثناها مع مفتاح السيارة.
إليك عدة حالات مثل «الغماز» المسكين الذي نسي لماذا وضع، (أذكرك أيها السائق إنه مركون بجانب المقود من جهة إيدك الشمال)، ولكن جعلناه تحفة ديكورية لغرض الفحص الفني عن الترخيص، فاستخدام الغماز في شوارعنا قد يفسر على أنه نوع من «الترف الحضاري» أو «الجبن المروري» أو علامة ضعف، أو ربما قلة خبرة.. «السائق الفهلوي» ينعطف فجأة، بلا سابق إنذار، ثم ينظر إليك مستغربا: «مش شايفني"؟!
لنضع مشكلة الغماز جانبا لأنها «مش قضيتنا»، ونذهب لحالة أخرى وهي التقاطعات، عندما أصل إليها يتوقف قلبي، وتتحول عيوني في هذه اللحظة إلى عيون الصقر تتحرك في كل الاتجاهات في زمن واحد، والتي أطلق عليها: (فن أخذ الأسبقية من الآخرين).. فالقانون واضح، لكن التطبيق على الأرض أشبه ببرنامج للمقالب، من المفترض أن الأولوية لمن يسير على الطريق الرئيسي، لكن الواقع يقول: «الأولوية لمن يسبقك إلى الفراغ، بغض النظر عن حجمه»، كثيرون يعتبرون هذه الجرأة بطولة ودهاء، لا مخالفة، وإن عبرت عن انزعاجك، فربما يرد عليك بابتسامة عريضة و?أنك لا تفهم قواعد اللعبة.
وتتكرر الملهاة عند الإشارات الضوئية، هناك ظاهرة عجيبة (السحر المروري الأردني في أبهى تجلياته)، تتمثل في تسلل السيارات من أقصى اليمين فجأة بغض النظر عن نوعها: مركبة صغير، شاحنة أو باص مدرسة، المهم انقضاضها على مقدمة الطابور عند لحظة الانطلاق، وكأن سائقيها في سباق «فورمولا وان»، لا أحد يسأل: من أين خرج هؤلاء؟ فقط نتنهد ونفسر الموقف بأنه «الشاطر بيطلع أول بغض النظر من أين».
المشاة؟ آه، أولئك الموهومون بظنهم أن لهم حق العبور فوق خطوط بيضاء مرسومة! في الثقافة المرورية السائدة، هذه الخطوط مجرد «زركشة» على الإسفلت، لا تعني شيئا، إذا حاول أحدهم العبور، فغالبا سيجابه بزوامير عدائية، وربما نظرات ازدراء، وكأن وجوده في الشارع جريمة.
لا يسع هذا المقال أن نجلب كل ما يعكر مزاجنا عند خروجنا من المنزل إلى العمل بهمة كبيرة، ولكن مثل هذه التحديات تجعلنا عند وصولنا للعمل بأننا كنا في معركة حامية الوطيس، تخرج منها بجروح عميقة في وجدانك ونظرتك للأوضاع السائدة.
هذه المشاهد ليست طريفة كما تبدو، وليست فقط مخالفة للقانون، بل تعكس غيابا مقلقا للوعي والثقافة المرورية، بل تعكس ثقافة عميقة الجذور تفتقر إلى الإحساس بالمصلحة العامة، المشكلة لم تعد في عدد الدوريات أو كاميرات المراقبة، بل في قناعة راسخة بأن احترام القانون مرادف للغباء، وأن من «يلف ويدور» هو الأذكى.
لذا، على الجهات المختصة أن تغير أدواتها، فالغرامات وحدها لا تكفي، المطلوب حملة توعية تبدأ من المدرسة ولا تنتهي عند إشارات المرور، وإعلام ذكي يخاطب الوعي، لا الملامة، ومبادرات تعيد الاعتبار لفكرة بسيطة: أن الشارع ليس ساحة لإثبات الذات، بل مساحة نشاركها جميعا… وعلينا أن ننجو منها، مع أعصابنا.
فالشارع ليس حلبة مصارعة، والغماز ليس «خيانة»، والأسبقية ليست لمن «أخذها غصبا»، بل لمن استحقها قانونا، والوعي المروري ليس رفاهية… بل ضرورة بقاء.