في الثامن عشر من تموز عام 2021، كتبتُ على صفحتي الشخصية عن ظاهرة بدأت تتسلل بهدوء إلى الأنظمة التربوية حول العالم، أطلق عليها المفكر الفنلندي باسي سالبرغ اسم «GERM»، أي «جراثيم التعليم»، في وصف ساخر وعميق لحركة إصلاح التعليم العالمية (Global Education Reform Movement). يومها، شعرت بأن هذه الجراثيم بدأت تجد لها موطء قدم في نظم تعليمية عربية.
ثم جاء مقال الأستاذ موفق ملكاوي في صحيفة «الغد» بتاريخ 1 تشرين الثاني 2023، ليعيد تحريك المياه الراكدة حول هذه الفكرة، ويشير بجرأة إلى ما قد يبدو للبعض تقدمًا، لكنه يحمل في طياته انحرافًا تدريجيًا عن جوهر التربية. فقد بات واضحًا أن بعض السياسات التعليمية، التي تُصاغ تحت لافتات الجودة والتحديث، إنما تستبطن تحويل التعليم إلى حقل تجريب لسياسات مُستوردة لا تُراعي البيئة، ولا تُصغي إلى نبض الواقع.
مصطلح GERM ليس مجرد توصيف ساخر لحركة إصلاحية، بل هو تحذير من عدوى تنتقل بين الأنظمة التربوية، فتُخضعها إلى نموذج واحد لا يعترف بالتنوع الثقافي، ولا بالتفاوتات الاجتماعية، ولا بالخصوصيات الوطنية. هذه الجراثيم تحمل معها أمراضًا عدة: هوس بالاختبارات الموحدة، وتعظيم للنتائج الرقمية، ونزوع نحو الخصخصة، وهمّ بتصنيف المدارس والمعلمين والطلبة وفق معايير ضيقة، تكاد تختزل التربية كلها في دفتر علامات.
التجربة الفنلندية التي انطلق منها سالبرغ لا تُقدَّم بوصفها النموذج الذي يجب نسخه، بل باعتبارها قصة نجاح نابعة من خصوصية ثقافية وفكرية، استطاعت أن تقول «لا» في وجه هذا التيار الجارف. لقد رفض الفنلنديون الانجرار وراء موجة «الإصلاح المعولم»، واختاروا أن يُعيدوا بناء تعليمهم على أسس الثقة بالمعلم، والعدالة الاجتماعية، وتغليب روح التعاون، والابتعاد عن الهوس بالتصنيفات الدولية.
وفي المقابل، إذا ما ألقينا نظرة متأملة على واقع التعليم في الأردن، فإننا سنلمح آثار هذه العدوى هنا وهناك. يكفي أن ننظر إلى مركزية امتحان الثانوية العامة، وإلى النزعة المتزايدة نحو التنافس بين المدارس، وتراجع حضور الفلسفة التربوية الشاملة أمام سطوة الأرقام والتقارير. لقد بات المعلم يُسأل عن نتائج طلبته، لا عن قدرته على إشعال فضولهم. وباتت المدرسة تُصنَّف لا وفق قدرتها على بناء الإنسان، بل وفق أدائها في امتحانات محددة.
المؤسف أن كثيرًا من هذه السياسات تُتخذ بنية الإصلاح، لكنها تُقاس بمعايير غير تربوية. نقارن أنفسنا بتقارير دولية، ونلهث خلف مؤشرات لا تسأل عن الهوية، ولا عن الانتماء، ولا عن القيم. وكلما ازدادت أرقامنا «تحسنًا»، ازداد شعورنا بأن شيئًا ما يتسرب من بين أيدينا: العلاقة الأصيلة بين المعلم وتلميذه، والفرصة التي تُمنح للعقل كي يخطئ فيتعلم، والوقت الذي يُترك للخيال كي يثمر.
لسنا ضد التقييم، ولا ضد التطوير، بل نحن في أمسّ الحاجة إليهما. لكننا ضد أن يُفرَض علينا نموذج لا يشبهنا، وضد أن نصوغ تعليمنا وفق مقاسات الآخرين. التعليم ليس سباقًا في مضمار واحد، بل هو غابة من المسارات، فيه من يسير، ومن يتأمل، ومن يقف ليتأمل زهرة على الطريق.
ما نحتاجه في الأردن اليوم هو شجاعة تربوية. شجاعة تعيد الاعتبار لفلسفة التعليم، وتضع المعلم في مركز العملية لا في هامشها، وتعيد بناء السياسات من القاعدة لا من السقف. شجاعة تنظر إلى الطفل ككائن قابل للنمو لا كرقم قابل للترتيب. شجاعة تقول إن التعليم ليس «خدمة»، بل «رؤية»، وإن المدرسة ليست «منشأة»، بل «مكان إنساني».
في زمن تتكاثر فيه وصفات الإصلاح المعلبة، علينا أن نُصغي لصوت تربوي وطني، يصوغ مفرداته من الواقع، ويسترشد بالتجارب لا ينسخها، ويحمل حلمًا لا جدولًا للتنفيذ فقط. وما لم نفعل، فستظل «جراثيم التعليم» تجد لها طريقًا إلى مدارسنا، ونحن نظن أننا نُصلح ما لا يُراد له أن يُشفى بهذه الطريقة.
