شهدت جلسة مجلس النواب الأخيرة التي جرى تخصيصها لمناقشة توصيات اللجنة المالية بشأن تقريري ديوان المحاسبة لعامي 2022 و2023 مشاحنات نيابية ومشادات بين أعضائه حول تفسير أحكام النظام الداخلي المتعلقة بآلية الكلام أثناء جلسات المجلس، والتي وصلت مرحلة اضطر معها رئيس المجلس إلى التدخل بشطب عبارات مسيئة من المحضر والاعتذار لبعض النواب.
وقد شاءت الأقدار أن يتصادف عقد هذه الجلسة النيابية الصاخبة مع تنظيم ديوان المحاسبة لندوة دولية رفيعة المستوى حضرها رؤساء الأجهزة الرقابية في العديد من الدول العربية ونوابهم، ورؤساء لجان برلمانية وأعضاء مجالس برلمانية من الدول العربية، بالإضافة إلى مشاركة جهات إقليمية ومنظمات دولية متعددة، والتي كان محورها الرئيسي تعزيز استقلالية أجهزة الرقابة العليا في مجال الرقابة على المال العام.
وقد افتتح رئيس مجلس الأعيان هذه الندوة العلمية التي حملت عنوان "كيف تؤثر العوامل غير الرسمية على استقلالية الأجهزة الرقابية العليا؟"، مستعرضا الجهود الأردنية التي تبذل في مجال حماية الأموال العامة وتعزيز الرقابة الوطنية عليها. وأثناء انعقاد الجلسة الأولى من الندوة، وصلت الأخبار عن وقوع المشاجرة النيابية، والتي أثرت سلباً على مجريات النقاش في المجلس حول مخرجات اللجنة المالية الخاصة بتقارير ديوان المحاسبة للعامين (2022 – 2023).
إن هذا التباين في مواقف مؤسستين وطنيتين مقدرتين من مجال تعزيز النزاهة والشفافية في القرارات الحكومية يدعو إلى التفكير مليا في طبيعة التكامل بين الجهات الرسمية التي تُعنى بمراقبة واردات الدولة ونفقاتها، والرقابة على المال العام للتأكد من سلامة انفاقه بصورة قانونية وفاعلة.
فالمبادئ الدولية التي تحكم عمل الأجهزة الرقابية الوطنية، ومن ضمنها ديوان المحاسبة، تكرس دورا محوريا لممثلي الشعب المنتخبين في متابعة المخرجات الرقابية ومناقشة التقارير السنوية التي تصدر عنها. فمجالس النواب بما تملكه من صلاحيات دستورية تعتبر هي الأساس في تفعيل الرقابة الشعبية على الإدارات الحكومية في مجال حمايتها للأموال العامة.
وقد نجحت الإصلاحات السياسية في الأردن في تعزيز دور مجلس الأمة في مناقشة ومتابعة تقارير ديوان المحاسبة، حيث تقرر في عام 2022 تعديل المادة (119) من الدستور لصالح إلزام مجلسي الأعيان والنواب بمناقشة تقرير ديوان المحاسبة خلال الدورة التي يقدم فيها أو الدورة العادية التي تليها على الأكثر. وقد هدف هذا التعديل إلى القضاء على ظاهرة تكدس هذه التقارير في أروقة المجلس، ففرض المشرع الدستوري على المجلس النيابي أن ينهي نقاشاته لتقرير ديوان المحاسبة خلال فترة زمنية معينة من تاريخ إحالته إليه.
ومع ذلك لا يزال بعض النواب الحاليين وفي مقدمتهم المنتسبون لأحزاب سياسية غير مدركين لأهمية دورهم الرقابي على مخرجات ديوان المحاسبة، حيث يتسع نطاق الأضرار التي تتسبب فيها عدم جدية المجلس في التعاطي مع تقاريره السنوية لتشمل الديوان نفسه. فمع كل تقرير سنوي يصدره، يكثر الحديث الشعبي عن جدوى هذه الرقابة وجدية السلطات الحكومية في معاقبة المتعدين على المال العام، وذلك في ظل عدم تحمل مجلس النواب لمسؤولياته الدستورية بالشكل المطلوب منه.
لقد شهد ديوان المحاسبة خلال السنوات الماضية نقلة نوعية في مجال عمله الرقابي، والتي تجسدت بشكل واضح وجلي في طبيعة التقارير السنوية التي يصدرها والمذكرات الخطية التي يوجهها بشكل دوري إلى المؤسسات الوطنية الخاضعة لرقابته. كما نجح الديوان في تعزيز موقعه على المستوى العالمي من خلال سعيه الدائم إلى التشبيك مع المؤسسات الإقليمية والدولية التي يتشارك معها في الأهداف والغايات، وذلك ضمن سياسته في الانفتاح على العالم الخارجي، وتبني الممارسات الفضلى في مجال عمل الأجهزة الرقابية العليا وتوظيف التكنولوجيا في تجويد عملية الرقابة والتدقيق على القطاع العام.
من هنا، فإنه يتعين على مجلس النواب أن يُظهر دعمه ومساندته لديوان المحاسبة من خلال دعم اصلاحاته المؤسسية وتطوير منهجياته والتعاطي بجدية وموضوعية مع توصياته ومخرجاته السنوية، وأن تكون أي جلسة مخصصة لمناقشة تقاريره وأعماله الرقابية على درجة عالية من الأهمية، تضاهي جلسة التصويت على البيان الوزاري للوزارة الجديدة، أو طرح الثقة بالحكومة وأي من الوزراء فيها.
ويجب على مجلس النواب أن يبادر إلى تعديل نظامه الداخلي، بحيث يتبنى إجراءات خاصة لمناقشة تقارير ديوان المحاسبة تكون مختلفة من حيث ماهيتها ومضمونها عن أي أعمال إجرائية أخرى تخص الوظيفة التشريعية أو حتى الرقابية على الحكومة. فالمشرع الدستوري قد عظّم من مكانة ديوان المحاسبة وقانونه الناظم لعمله، بأن اعتبر هذا التشريع من القوانين ذات الطبيعة الدستورية، التي تشترط المادة (84) من الدستور موافقة ثلثي أصوات الأعضاء لتعديله.
كما أن تقارير ديوان المحاسبة تحتوي على العديد من الملاحظات الجوهرية التي ترتبط بالجانب التشغيلي الفني للجهات الخاضعة للرقابة. فالديوان يمارس ثلاثة أنواع من التدقيق؛ تدقيق الالتزام، والتدقيق المالي، وتدقيق الأداء. فلا يجوز اقتصار مناقشة محتويات التقارير على اللجنة المالية، خصوصا في ظل غياب لجنة المساءلة قياسا على النماذج الغربية والديمقراطيات المتقدمة.
إن مجلس النواب مدعو إلى اخضاع أعضائه لورش عمل تعريفية حول آلية عمل ديوان المحاسبة والدور المحوري الذي يقوم به، بالإضافة إلى تدريبهم على كيفية التعاطي مع تقاريره السنوية ومتابعة توصياته ومخرجاته الرقابية. كما يتعين على المجلس النيابي أن يعمل على بناء ثقافة داخلية لدى أعضائه بضرورة إيلاء أهمية قصوى للجلسات التي يعقدها المجلس وتكون مخصصة لمناقشة المخرجات الرقابية لديوان المحاسبة، بحيث لا يتم الغياب عنها ولا محاولة تغيير مجرياتها بهدف تحقيق مصالح حزبية أو مآرب شخصية.
* أستاذ القانون الدستوري وعميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة