ما هو الجينوم ولماذا يجب أن نهتم به؟
الجينوم هو المحتوى الكامل من الحمض النووي (DNA) الموجود داخل نواة كل خلية في جسم الإنسان، ويحتوي على كافة المعلومات الوراثية اللازمة لنمو الكائن الحي وتطوره ووظائفه الحيوية. في الجينوم البشري، تُشفّر هذه المعلومات ضمن نحو 3.2 مليار زوج قاعدي موزعة على 23 زوجًا من الكروموسومات.
تتكون هذه الشيفرة من آلاف الجينات التي تُعدّ بمثابة 'وصفات بيولوجية' تنتج البروتينات المسؤولة عن بناء الأنسجة وتنظيم العمليات الحيوية في الجسم. وتكمن أهمية الجينوم في أن أي خلل أو طفرة في تسلسل هذه الجينات يمكن أن يؤدي إلى أمراض وراثية، أو يؤثر على استجابة الجسم للأدوية، أو يزيد من قابلية الإصابة بأمراض مزمنة.
ومع تطور تقنيات تحليل الجينوم، أصبح بالإمكان فحص الشيفرة الوراثية بدقة متناهية، مما مهد الطريق لظهور ما يُعرف بالطب الشخصي – وهو نهج طبي يعتمد على معلومات الجينات لتقديم تشخيصات دقيقة، وعلاجات مصممة خصيصًا لكل فرد، واستراتيجيات وقائية مبنية على الاستعداد الوراثي.
من هنا بدأ كل شيء: مشروع الجينوم البشري
في عام 1990، انطلقت واحدة من أضخم المبادرات العلمية في تاريخ البشرية: مشروع الجينوم البشري. وُلد هذا المشروع كجهد دولي ضخم يهدف إلى فك تسلسل الحمض النووي البشري بالكامل، أي قراءة كافة الحروف الجينية التي تكوّن الجينات البشرية.
استمر المشروع 13 عامًا، وشارك فيه آلاف العلماء من مختلف أنحاء العالم، بميزانية بلغت نحو 3 مليارات دولار. وفي عام 2003، أُعلن رسميًا عن اكتمال أول خريطة جينية بشرية دقيقة، ما مثّل نقطة تحوّل في تاريخ الطب والعلوم الحياتية.
لقد مكّن هذا الإنجاز من:
تحديد الجينات المسؤولة عن آلاف الأمراض الوراثية.
فهم آليات الإصابة المعقدة بالأمراض المزمنة مثل السرطان والسكري.
تطوير اختبارات جينية للكشف المبكر عن الاستعداد الوراثي للإصابة.
إطلاق ثورة في علم الأدوية الجيني (Pharmacogenomics) الذي يُعنى بتحديد الأدوية والجرعات المناسبة لكل فرد حسب جيناته.
لم يكن مشروع الجينوم مجرد إنجاز بحثي، بل أصبح البنية التحتية للطب الحديث، والأساس الذي تنطلق منه دول العالم الآن لتأسيس مشاريع جينومية وطنية تهدف إلى دراسة الخصوصية الجينية لشعوبها، وتحقيق طفرات في مجالي الصحة العامة والاقتصاد الحيوي.
مشاريع الجينوم في الدول العربية: خطوات واثقة نحو المستقبل
في السنوات الأخيرة، بدأت عدة دول عربية في إطلاق مشاريع جينومية وطنية تُجسّد طموحًا علميًا واضحًا نحو النهوض بالرعاية الصحية وتحقيق السيادة الوراثية. تُعد المملكة العربية السعودية من أوائل الدول في هذا المجال، إذ أطلقت مشروع الجينوم السعودي عام 2013 لبناء خريطة وراثية شاملة للمجتمع، تهدف إلى فهم الطفرات الجينية المرتبطة بالأمراض الوراثية والمزمنة، وتحسين التشخيص والعلاج والوقاية، مع توثيق آلاف المتغيرات الجينية ضمن مختبر وطني مجهز بأحدث التقنيات.
أما في الإمارات العربية المتحدة، فقد تميز البرنامج الوطني للجينوم الإماراتي باستخدام تقنيات تسلسل الحمض النووي والذكاء الاصطناعي لإنشاء قاعدة بيانات مرجعية شاملة لمواطني الدولة، تُوظف في تعزيز التشخيص الدقيق والعلاج الشخصي والوقاية من الأمراض المزمنة والوراثية.
وفي قطر، أعلنت الدولة عن إنجاز تسلسل الجينوم لـ25 ألف مواطن، ضمن مبادرة يقودها معهد قطر للرعاية الصحية الدقيقة، لتكون أكبر قاعدة بيانات جينية في الشرق الأوسط، ما يعزز قدرات الطب الدقيق والتشخيص المبكر ويوفّر بيانات استراتيجية للباحثين وصانعي القرار.
من جانبها، أطلقت سلطنة عُمان 'البرنامج الوطني للجينوم والبيانات البشرية'، الذي يهدف إلى تأسيس مرجعية جينومية للسكان العمانيين، وتطوير الفحوصات الوقائية والتشخيصات الوراثية، مع التركيز على وضع تشريعات لحماية الخصوصية، وبناء كوادر وطنية في علوم الجينوم والمعلوماتية الحيوية.
إلى جانب هذه الدول، تعمل كل من مصر، البحرين، والكويت على مشاريع جينومية خاصة بها، في خطوة تعكس إدراكًا متزايدًا لأهمية هذه التقنية في صياغة مستقبل الطب العربي. إن هذه النماذج الرائدة تُجسد تحولًا نوعيًا نحو الرعاية الصحية الوقائية والعلاج الدقيق، وتؤكد أن الطب الحديث يبدأ من قراءة الجينوم… فهل آن الأوان أن يكون للأردن مشروعه الجينومي الوطني؟
نحو مشروع جينوم أردني: ضرورة وطنية لا رفاهية علمية
في ظل هذا التقدم المتسارع على مستوى العالم العربي، لم يعد الحديث عن مشروع جينوم أردني مجرد طموح شبابي أو اقتراح علمي، بل أصبح ضرورة وطنية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بتطوير النظام الصحي الأردني، والارتقاء بمستوى التشخيص والعلاج، وتقليل العبء الاقتصادي الناتج عن الأمراض الوراثية والمزمنة.
فالأردن، الذي طالما كان سبّاقًا في مجالات البحث العلمي والرعاية الصحية، يمتلك قطاعًا صحيًا يحظى بثقة عالية على المستويين الإقليمي والدولي، وكفاءات طبية وبحثية مشهود لها. ومع وجود جامعات بحثية نشطة، وتنوّع سكاني فريد، فإن المملكة مؤهلة تمامًا ليكون لها مرجعيتها الوراثية الخاصة، التي تُستخدم لتوجيه السياسات الصحية، وتمكين الأطباء من تقديم رعاية شخصية دقيقة، وتحفيز الأبحاث في مجالات الطب الحيوي والمعلوماتية الحيوية.
تشير البيانات المتوفرة إلى أن الأمراض الوراثية النادرة، رغم انخفاض معدل انتشارها، إلا أنها تُشكل عبئًا متزايدًا على النظام الصحي في الأردن. ففي بعض الحالات، مثل أمراض التخزين الوراثي، قد تصل تكلفة العلاج بالإنزيم التعويضي إلى ما بين 60,000 و90,000 دولار سنويًا للمريض الواحد، اعتمادًا على الوزن ومرحلة المرض. وقد تم تشخيص عشرات الحالات لأمراض مثل 'جوشر' و'بومبي' وعديد السكاريد المخاطي، مع تقديرات رسمية سابقة أشارت إلى أن تكلفة علاج ما يقارب 80 مريضًا بهذه الأمراض قد تتجاوز 6.5 مليون دينار أردني سنويًا.
ورغم الجهود الفردية، لا تزال هناك فجوة في التنسيق بين الجهات الصحية المختلفة، وغياب قاعدة بيانات وطنية دقيقة لهذه الحالات. هذا الواقع يؤكد الحاجة الملحة إلى إطلاق مشروع وطني للجينوم، لا بهدف التشخيص فقط، بل لوضع خطة استراتيجية تُعزز الوقاية، وتُتيح التدخل المبكر، وتُقلل من الأعباء المالية والطبية على الدولة والأسر على حد سواء.
إن تأسيس قاعدة بيانات جينومية أردنية سيسهم في تعزيز برامج الوقاية المبكرة، ودعم الطب الدقيق، وفتح المجال أمام شراكات علمية إقليمية وعالمية، كما أنه يُعد خطوة استراتيجية نحو بناء اقتصاد معرفي مبني على العلم والتقنية، والأهم من ذلك، أنه سيكون رسالة واضحة بأن الأردن، كما كان دائمًا، لا يقف في الصفوف الخلفية حين يتعلّق الأمر بمستقبل الإنسان.
لكن نجاح أي مشروع جينوم وطني لا يعتمد فقط على الإمكانات التقنية والبنية التحتية، بل يتطلب أيضًا إطارًا أخلاقيًا واضحًا يعزز ثقة المجتمع. من الضروري أن ترافق المشروع ضوابط صارمة لحماية خصوصية البيانات الجينية، وضمان الحصول على الموافقة المستنيرة، وتوضيح كيفية استخدام المعلومات الوراثية ضمن أطر قانونية شفافة. إن احترام خصوصية الأفراد، والوعي بالحساسية الثقافية والاجتماعية لهذا النوع من المشاريع، شرط أساسي لتحقيق قبول مجتمعي واسع، وضمان مشاركة فاعلة وداعمة.
اليوم، تُوجَّه هذه الدعوة إلى صنّاع القرار، والمؤسسات البحثية، والقطاع الصحي، وإلى كل من يؤمن بأن السيادة الصحية تبدأ من الجينات…
فليكن مشروع الجينوم الأردني بوابة الأردن نحو طب المستقبل.