في عالم تتحكم فيه المصالح وتتغير فيه موازين القوة تبعًا للموارد والقدرة على توظيفها، يبرز الاقتصاد العربي كأحد الأصول الكبرى غير المستغلة بالشكل الأمثل في النظام الدولي، فعلى الرغم مما تمتلكه الدول العربية من ثروات هائلة، سواء من حيث الطاقة أو الموقع الجغرافي أو الكتلة السكانية أو القدرات الاستثمارية، فإن قدرتها على تحويل هذه العناصر إلى قوة تفاوضية استراتيجية ما تزال محدودة وغير منتظمة، وفي كثير من الأحيان تُستخدم بطرق تخدم مصالح أخرى أكثر من خدمتها للأهداف العربية ذاتها.
هنا يثور التساؤل: هل الاقتصاد العربي ورقة رابحة معطلة؟ أم أنه سلاح فعال لم يُؤمن بعد؟ وهل تكمن المشكلة في نقص الموارد، أم في غياب الرؤية والحوكمة الاقتصادية الجماعية؟.
تمتلك الدول العربية إمكانات اقتصادية قل نظيرها على المستوى الدولي، فهي تحتضن ما يقرب من نصف الاحتياطي العالمي من النفط، وتعد من أكبر مصدري الغاز الطبيعي، وتتحكم في أهم الممرات البحرية الدولية التي تمر عبرها سلاسل الإمداد العالمية، كما أن عدد السكان في العالم العربي يقترب من نصف مليار نسمة، مما يجعله سوقا استهلاكية ضخمة، وفي الوقت ذاته قوة عمل يمكن أن توظف في النمو والإنتاج، إضافة إلى ذلك، تملك الدول العربية–خاصة الخليجية منها–صناديق سيادية هائلة تجاوزت ثلاثة تريليونات دولار، وتستثمر في كبرى الأسواق العالمي?، ورغم هذه المقومات، لا يزال الأداء الاقتصادي العربي يعاني من اختلالات مزمنة على مستوى التنسيق والتكامل والتوظيف السياسي للقوة الاقتصادية.
أحد أبرز مظاهر الخلل هو غياب التكامل الاقتصادي الفعلي بين الدول العربية، فعلى الرغم من توقيع عدد من الاتفاقيات الإطارية، مثل منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، لا تزال معدلات التبادل التجاري بين الدول العربية دون 10% من إجمالي تجارتها، وهي نسبة متدنية مقارنة بالتكتلات الاقتصادية الكبرى الأخرى، هذا الانفصال في الدورة الاقتصادية، يفتح الباب أمام مزيد من التبعية لاقتصادات الخارج، سواء في الاستيراد أو في التمويل أو في التكنولوجيا، ويزيد من حدة مشكلة استمرار الاعتماد المفرط على قطاع الطاقة كمصدر رئيسي للدخل في?معظم الاقتصادات العربية، مما يجعل هذه الاقتصادات عرضة للصدمات الدولية، سواء بسبب الحروب أو التغيرات المناخية أو التحولات في أسواق الطاقة العالمية.
الاقتصاد العربي يعاني كذلك من ضعف القدرة على التفاوض الجماعي، فمع اتساع المشاحنات العربية بين عدد من الدول، وتباين أولوياتها التنموية، لم تتمكن المنطقة من بلورة موقف اقتصادي موحد تجاه القوى الدولية الكبرى، لا في قضايا الطاقة، ولا في مفاوضات المناخ، ولا في قضايا الأمن الغذائي وسلاسل الإمداد، وهو ما أفقد العرب فرصة استخدام أدواتهم الاقتصادية كورقة ضغط سيادية في الملفات الاستراتيجية، وبدلاً من ذلك، تدار الثروات كل على حدة، ويتم التفاوض مع القوى الكبرى بصيغ ثنائية، مما يضعف من تأثير القرار العربي ويجعل المصالح?العربية عرضة للتهميش أو المساومة.
يتزامن هذا القصور في الأداء الاقتصادي العربي مع تحولات عالمية كبرى لا ترحم الضعفاء، فالتكتلات الاقتصادية الكبرى تزداد قوة، كما في الاتحاد الأوروبي والبريكس والآسيان والمريكسور، بينما يشهد العالم تحولًا جذريًا نحو الرقمنة والاقتصاد الأخضر والذكاء الاصطناعي، وإذا لم تتحرك الدول العربية سريعًا لتأمين اقتصادها من هذه التحولات، فإنها ستجد نفسها في موقع المتلقي لا المنتج، وفي دائرة التبعية لا الشراكة، فمعظم الدول الغربية تضع خططًا جدية للتخلي التدريجي عن الوقود الأحفوري، بينما لا تزال دول عربية كثيرة لم تبدأ خطو?تها الفعلية نحو تنويع مصادر الدخل أو بناء بنية تحتية رقمية متقدمة.
ما تحتاجه الاقتصادات العربية اليوم ليس مزيدًا من الموارد، بل مشروعًا مشتركا يربط الثروة بالقرار، ويحول فوائض المال إلى أدوات استثمارية سيادية تُعزز من مكانة الدول في النظام الدولي، من المهم أن تنتقل الصناديق السيادية العربية من الاستثمار الفردي إلى العمل الجماعي، ومن شراء الأصول في الخارج إلى بناء صناعات تكنولوجية وتنموية في الداخل، كما يجب دعم البنية المؤسسية للتكامل الاقتصادي العربي عبر مشروعات حقيقية في مجالات الطاقة والنقل والتعليم وربط الأسواق والبنى التحتية، مما يعزز الترابط الاقتصادي ويرفع من المناع? الجماعية في مواجهة الأزمات.
ولكي يتحقق هذا التحول المنشود، لا بد من إنتاج معرفة اقتصادية عربية مستقلة تستند إلى واقع المنطقة وتطلعات شعوبها، فالمعرفة ليست ترفًا، بل شرطًا للسيادة، يجب بناء مراكز تفكير اقتصادية عربية قادرة على تقديم دراسات استراتيجية وخطط عاجلة، وصياغة سياسات اقتصادية مبنية على تحليل دقيق للواقع العربي وللبيئة الدولية، بدلًا من الاستمرار في استيراد الرؤى والنماذج الجاهزة التي لا تتوافق بالضرورة مع خصائص المجتمعات العربية.
وفي هذا السياق، تكتسب زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المنطقة العربية أهمية خاصة، إذ تُظهر بوضوح الدور الذي يمكن أن تلعبه الدول العربية في إعادة رسم موازين القوى الاقتصادية والسياسية العالمية، الأمر يُظهر بجلاء أن الاقتصاد العربي، على الرغم من إمكاناته الهائلة، لا يزال يفتقر إلى تكامل سياسي واقتصادي يتيح له أن يكون قوة فاعلة في الضغط على الدول الكبرى لإعادة رسم السياسات الدولية بما يخدم المصالح العربية، لا أن يكون مجرد أداة استهلاكية تُستغل من قبل الآخرين، وبالتالي، فإن القضية الفلسطينية تمثل امتحان?ا حقيقيًا لمدى قدرة الدول العربية على توظيف اقتصادها كأداة استراتيجية للضغط السياسي، ليس فقط في مواجهة الضغوط الأمريكية، بل أيضًا في ضمان حقوق شعوبها في هذا التوقيت الحساس.
أكرر أن الاقتصاد العربي ليس معطوبا كاملا، ولكنه غير مُؤمن سياسيًا واستراتيجيًا، هو ثروة هائلة لا تنقصها الإمكانات، بل تعوزها القيادة المشتركة والرؤية بعيدة المدى، من يملك الطاقة والموقع والأسواق والموارد البشرية، يمتلك القدرة على التأثير في مجريات الأحداث الدولية، لكنه لن يحدث فرقا ما لم يخرج من منطق الاستهلاك إلى منطق الإنتاج، ومن منطق التنافس الداخلي إلى منطق التفاوض الجماعي، إن تحويل الاقتصاد العربي من ورقة رابحة غير مستغلة إلى سلاح سيادي فعال ليس مهمة فنية فقط، بل هو قرار حضاري يعكس مدى جاهزية العرب لا?تعادة موقعهم في عالم يدار بمنطق المصالح لا العواطف.
كاتب مصري
دكتوراة الاقتصاد- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة