(المضمون: لا يبدو أن الثمن الفظيع الذي يدفعه الفلسطينيون يمس قلوب الكثيرين في إسرائيل، سواء قلوب المدنيين أو قلوب كثير من الجنود الاسرائيليين–المصدر).
الطلاب وقفوا حولي على شكل نصف دائرة. كبست زر التشغيل، عندها بعد 58 سنة على خطابه الذي القاه على مسرح جبل المشارف، عاد صوت الجنرال اسحق رابين لمداعبة الحجر المقدسي. مرة أخرى استطعنا التعرف على صورة إسرائيل، والصورة الأخلاقية لقوات جيش الدفاع الإسرائيلي.
الخطاب الأصلي القاه اسحق رابين بعد أسبوعين على انتهاء حرب الأيام الستة. وقد كان منشغل بمسائل قيمية والتعليم على القيم. «يمكن طرح الاسئلة»، بدأ خطابه. «لماذا قررت الجامعة إعطاء شهادة فخرية في الفلسفة بالتحديد لجندي؟ ما شأن رجال الجيش بالاكاديميا، التي ترمز الى الحياة الثقافية؟ ما شأن الذين ينشغلون حسب مهنتهم بالعنف بالقيم الروحية؟ جواب رابين جاء بسرعة. «لأنه قبل سنة منحت الدولة جائزة إسرائيل للجيش الإسرائيلي تقديرا لدوره التعليمي»، قال رابين. «معروف في كل دول العالم لأن الجيش الإسرائيلي يتحمل المهمات التي تهدف الى مسألة السلام، وليس التدمير بل البناء وتمجيد القوة الأخلاقية للأمة. بعد أسبوعين على الحرب تشرفت الجامعة بمنح جيش الدفاع الإسرائيلي كله من خلالي شهادة فخرية كاشارة على الاعتراف بالتفوق الروحي والأخلاقي للجيش الإسرائيلي، لا سيما في القتال نفسه».
صوت رابين الواثق استمر وهو يلف جمهور الطلاب، وبالتدريج بدأت تتضح رؤية مدهشة: الجيش ليس نفس الجيش، والبلاد ليست نفس البلاد، والقيم ليست نفس القيم.
قيم البلاد في 1967 عرضها رابين باسلوبه الفريد. «نحن نواجه ظاهرة غريبة في أوساط طائفة المقاتلين»، قال للأساتذة الذين تجمعوا على جبل المشارف. وأوضح «هم لا يستطيعون الفرح من أعماق قلوبهم، بل احتفالهم يشوبه شيء من الحزن والدهشة، وبعضهم لا يحتفلون أبدا. المقاتلون.. لم يشاهدوا مجد النصر فقط، بل شاهدوا ثمنه أيضا. اصدقاؤهم سقطوا قربهم وهم يتضرجون بالدماء». عند سماع هذه الاقوال تردد صدى أقواله عن الصداقة والاخوة الفريدة في إسرائيل، وكأنك تستطيع سماع خط القيم الذي يمتد من جنرال الى جنرال حتى الآن.
سمعت رابين يواصل ويقول: «أنا اعرف أن الثمن الفظيع الذي دفعه العدو مس أيضا قلوب كثيرين منهم». وبينما كان ينطق هذه الكلمات، كان الامر وكأن صوت الفرامل مسموع في فضاء المدرج. نعم، الجيش الآن ليس هو نفس الجيش، والبلاد ليست نفس البلاد، والقيم بالتأكيد ليست نفس القيم.
مثلما اثبتت الدكتورة اوريت كمير في مقال لها في «هآرتس في 21/4، فانه لا يبدو أن الثمن الفظيع الذي يدفعه الفلسطينيون يمس قلوب كثيرين في إسرائيل، سواء قلوب المدنيين أو المتدينين أو العلمانيين، أو اليمين واليسار، وأقل من ذلك قلوب عدد كبير من جنود الجيش الإسرائيلي. لو كان يتحدث الى الإسرائيليين الآن لكان خطاب رابين سيواجه عند كثيرين منهم صحراء قفراء خالية من قيم الإنسانية. هكذا لدى سماعنا له امام فخامة صحراء الضفة ظهر وكأن شيئا في ثقتنا بانفسنا وبهويتنا الوطنية قد تصدع. لأن رابين واصل القول: «جيش الدفاع الإسرائيلي نجح في الحرب لأن السرايا كانت تعتمد على القيم الأخلاقية ومخزونات روحية، وليس على السلاح أو تقنية القتال». وتابع بأنه من اجل الفوز يجب علينا التصرف انطلاقا من «قيم الخير الأخلاقية وقيم الخير الإنسانية».
أنا والطلاب استمعنا لاقوال رابين هذه في اليوم الذي قال فيه وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بأن إعادة المفقودين ليست الهدف الأعلى؛ هذا كان بعد أسبوعين على انكشاف عمل فظيع قام به الجنود في غزة، وكان هذا في الأسبوع الذي اتضحت فيه لكثيرين آخرين مملكة الأكاذيب والخداع لحكومة إسرائيل. في الوقت الذي كنا نتعلم فيه النص كانت اعلام العيد والاحتفالات ترفرف بالفعل في سماء البلاد. ولكن عندما كنا نستمع الى خطاب رابين في نفس المكان الذي القاه فيه قبل 58 سنة اعتقدنا أن الكثير من الذين يلوحون باعلام إسرائيل اليوم يتفاخرون في الحقيقة بنزع الإنسانية الذي يقومون به وبانتقامهم وشرهم، كـ «يهود مسرورين». الآن اختفت قيمة الصداقة والمسؤولية المتبادلة، التي كان الإسرائيليون يتفاخرون فيها في السابق، ولم تعد راية «معا سننتصر» إلا راية للتلاعب والتحايل والخداع العام.
عندما اقترب الخطاب من نهايته، عاد رابين وتحدث عن أهمية القيم. حيث قال «مظاهر البطولة بدايتها في الروح ونهايتها في الروح... الجيش يمكنه أن ينتصر بفضل مستواه الأخلاقي والروحي والنفسي اثناء الاختبار». بعد 58 سنة وقفنا للاستماع اليه على قمة جبل المشارف، ولكن الآن بتشكك: هل في يوم الاستقلال الـ 77 تتحلى إسرائيل بنفس المستوى الأخلاقي والروحي والنفسي، التي تحدث عنها اسحق رابين؟. بعد مرور ثلاثين سنة على قيام هؤلاء «اليهود المسرورين من قتله» فانه يبدو أن الجواب في هذه المرحلة هو «لا»، لأن الجيش ليس نفس الجيش، والبلاد ليست نفس البلاد، والقيم، بالتأكيد، ليست نفس القيم.
(هآرتس)