يواجه الأردن في عام 2025 أزمة مائية غير مسبوقة، تُنذر بصيف قاسٍ وتحديات تهدد الاستقرار الاجتماعي والمعيشي. إذ تفاقمت مشكلة المياه في البلاد حتى أصبحت أزمة وطنية بامتياز، فلم تعد تحتمل التأجيل أو التسويف، بل باتت تتطلب إجراءات حاسمة وسريعة قبل أن تتعمق الفجوة بين الطلب والعرض، والصحة والمرض، والارتواء والعطش، فتتحول إلى صراع يومي على قطرة ماء، وتكلفة إضافية لشراء المياه.
إننا اليوم لا نقف أمام أزمة طارئة، بل أمام مشكلة عميقة تمتد جذورها إلى عشرات السنين. نعم، مشكلة عميقة تمتد جذورها إلى عشرات السنين، كانت تُرحّل من حكومة إلى أخرى، وتُدار بالحلول المؤقتة لا بالاستراتيجيات الجذرية في التعامل مع أزمة المياه باعتبارها أولوية وجودية في عالم متأزم إقليميا، لا مجرد ملف خدماتي. ومن يعتقد أن مشروع الناقل الوطني هو حل نهائي فهو مخطئ لأنه مجرد حل مؤقت يؤجل المشكلة الى الأمام قليلا عندما ينتهي.
لم نعد نملك ترف الانتظار، فالمؤشرات تنذر بجفاف متصاعد وتراجع خطير في مصادر المياه الجوفية غير المتجددة، ناهيك عن تأثيرات التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة وزيادة عدد السكان والتوسع في الزراعة غير المنضبطة. والمواطن البسيط هو من يدفع الثمن، حيث باتت تتكرر شكاوى الانقطاعات الطويلة، وسوف تتعمق بمرور الوقت، وبالتالي تؤدي إلى تراجع الخدمة، وغياب العدالة في التوزيع.
إننا اليوم بحاجة إلى ترشيد صارم في استهلاك المياه، يتجاوز حملات التوعية العامة (ولكنه لا يستغني عنها) إلى إجراءات تنفيذية ملزمة نباشر بها فورا لأنها لن تنتظر تشكيل لجان واجتماعات ومماطلة. فهنا بعض الإرشادات الحازمة التي يجب تطبيقها فوراً:
1. تطبيق تسعيرة تصاعدية عادلة
ينبغي أن يدفع من يستهلك أكثر من الحد المعياري من المياه سعراً أعلى بكثير، بحيث يُشجَّع الناس على تقنين الاستهلاك، ويُحمَّل أصحاب الاستهلاك العالي الكلفة الحقيقية للمياه.
2. فرض غرامات على الإسراف
من الضروري فرض عقوبات مالية حقيقية على هدر المياه، سواء في المنازل أو المزارع أو المنشآت التجارية أو الصناعية أو في مؤسسات الدولة، وإطلاق فرق رقابية لضبط المخالفين بحيث تكون لديهم ضابطة عدلية لضبط المسرفين باستخدام المياه في تنظيف الأرصفة والمركبات والضخ من مصادر المياه المتنوعة. ومخالفة أولئك الذين لا يصلحون عوامات تنكات المياه أو عوامات المراحيض العامة أو تسريب المياه داخل حرم أملاكهم.
3. إعادة هيكلة شبكة التوزيع
يجب إصلاح شبكات المياه المتقادمة التي تُهدر نحو 40% من المياه قبل أن تصل للمستهلك، واعطاؤها أولوية، وذلك عبر خطط شاملة لإعادة التأهيل والصيانة الدورية والمراقبة الحثيثة بالرصد أو بمحطات قياس الضغط.
4. وقف زراعة المحاصيل المستنزفة للمياه
لا يمكن القبول باستمرار زراعة أنواع من الخضراوات والفواكه التي تتطلب كميات ضخمة من المياه في بيئة شبه صحراوية مثل الأردن، مثل الموز والبندورة والخيار، ومن ثم نقوم بتصدير المياه عبرها الى الخارج. فلا بد من سياسات زراعية بديلة ومستدامة فورا بحيث يمكنها أن تسيطر على استنزام المياه وأساليب الري التقليدية.
5. تشجيع الحصاد المائي
على البلديات والمواطنين استخدام تقنيات الحصاد المائي، من تجميع مياه الأمطار إلى إعادة استخدام المياه الرمادية في المنازل والمؤسسات، والتوسع في معالجة المياه العادمة. والتوسع في انشاء السدود والحفائر، وإنجاز التوسع في حصاد السدود هذا العام إلى 400 مليون متر مكعب بلا تأخير، وتغطية مسطحات السدود المكشوفة بكرات بلاستيكية أو ألواح شمسية عائمة لتوليد الكهرباء لخفض التبخر عبر حجب أشعة الشمس وخفض سرعة الرياح السطحية.
6. التعاون الإقليمي والدولي
يجب أن يتحول ملف المياه إلى أولوية في السياسة الخارجية، عبر اتفاقيات تعزز العدالة في تقاسم الموارد المائية المشتركة مع دول الجوار، وتحقيق استثمارات دولية في مشاريع تحلية المياه وضخها بواسطة الطاقة المتجددة النظيفة، كالطاقة الشمسية التي باتت أقل أنواع الطاقة تكلفة وأكثرها أمانا على الاطلاق.
7. منع زراعة النجيل وريّه كما فعلت بريطانيا عام 1976 خلال أزمة المياه. واقتصار برك السباحة على المسابح العامة فقط. فمن ضمن إجراءات الطوارئ، التي فرضتها الحكومة البريطانية كانت عدة قيود صارمة على استخدام المياه، من أهمها:
• منع ري الحدائق العامة والخاصة بالمياه العذبة.
• منع زراعة وريّ النجيل (العشب الأخضر) بسبب استهلاكه العالي للمياه.
• تقييد استخدام المياه لغسل المركبات وري الملاعب والمتنزهات.
• حملة توعية ضخمة بين المواطنين حول أهمية الاقتصاد في الماء.
8. التوسع في البحث عن المياه العميقة وتطوير تقنية عزل الطبقات الضحلة والمتوسطة عنها. وتوسعة تحلية المياه المالحة وتشجيع زراعة المحاصيل التي تتحمل ملوحة عالية، مثل الشعير والكرسنة.
9. وضع مواصفات خاصة لتصميم الابنية لتوفير المياه، كتحديد سعة خزان تنظيف المرحاض، واستخدام الصنابير التي تعمل بحركة اليد، وتركيب أجهزة توفير المياه، وما الى ذلك.
10.عمل خطة لتطوير أداء المباني العامة والحكومية والفنادق في مجال ترشيد استهلاك المياه. طبعا من دون التأثير على الاستثمارات السياحية.
وبناء عليه، فإننا نكرر القول بلا تردد: لدينا مشكلة عميقة تمتد جذورها إلى عشرات السنين. وكل تأخير في الحل هو مراكمة للخطر وتعميق له، وزيادة في معاناة المواطن، وزيادة في التكلفة للوصول إلى الحلول نفسها. فإذا لم تُتخذ قرارات شجاعة الآن، فسوف نقف أمام كارثة اجتماعية واقتصادية ومائية لن يُجدي معها ندم.