الرأي الثقافي

تكثيف صورة الحنين والاغتراب

«فلتغسلوا قلبي برؤيا يا أهالي الأندلس»..

هي شجرة التين المغروسة في حوش بيتنا منذ سنين، تخبرني بتعاقب الفصول وتعاقب خيباتي، أحيانا تكون أغصانها جرداء تزيد من شعوري بالكآبة، تقذفها رياح الشتاء العاتية باتجاه اسلاك التيار الكهربائي التي تدخل إلى الغرفة الوحيدة في المنزل المتهالك، تزيد من قلقي وخوفي من حصول كارثة ما.

وأحيانا أخرى أرى براعم الورق الصغيرة في أول التكوين، تكبر البراعم شيئا فشيئا وتصبح أوراقا خضراء ندية، تشعرني بقدوم شهر نيسان، كأنه يقرع باب منزلي الخشبي العتيق، لا أدري إن كان صحيحا القول «عندما تتآكل البيوت وتصبح أنقاضا تتآكل القلوب ويغادرها الحب». بيوت حيّنا صغيرة، تنتشر بعشوائية على جوانب الشوارع والأزقة الضيقة، التي تعطي من يسلكها إحساسا بالألفة. وإن نظر إلى ما في داخل البيوت التي لا تستر أبوابها ولا تمنع متلصصاً بنظراته، بدت له مليئة بالحركة كأنها مسارح الدمى، إلا بيتي هذا؛ فأنا والوحدة وشجرة التين.

أتلمس خاصرتي؛ هل قرعَ نيسان فعلا أحشائي المتيبسة، وهل ستفيض أنهاري الداخلية وتخصب روحي؟ لي مع نيسان حكايات حب ونضوج ومغامرات لا يصح البوح بها. الفقراء لا أحد يستمع لبوحهم حتى لو كان عجبا.

أنتظر الصيف والحر الشديد وتأتي معه سياط الندى تجلد حبات التين وتكسوها بصفار مختلط مع الخضار، فتنضج الحبات تباعا، ويبدأ عندي طقس اكتسبته من والديّ وهو أكل حبات التين مع الخبز في الصباحات الدافئة، وجبة إفطار محببة إلى قلبي.

أيام وليالٍ أرقب فيها نضوج حبات التين، ثم اصفرار الورق وتساقطه على أرضية الحوش مشكلا فوضى عارمة يصعب السيطرة عليها، تشبه فوضى الذاكرة التي يقذفها العقل الباطن عند مرضى باركنسون، وتلك التي تقذفها المدينة عندما يضربها زلزال.

هي شجرة التين التي تشعرني بأن الزمن يجرى والأيام والليالي تتوالى.

يزورني «صدّيق» ثلاث مرات في الأسبوع، محملا بالطعام والشراب، يجمعنا السرير القديم، يشبعني في الفراش وأرضيه. ترقب الصورة المعلقة على الجدار فوق السرير، عرينا ورعشاتنا، حفظتُ أنا أدق تفاصيل الصورة، كما شهدت هي أدق تفاصيل علاقتنا الحميمة، صورة رجل نهض من قبره، بهي الوجه، أشقر الشعر غزيره، عيناه خضراوان، نظراته حادة لكنها تائهة في الملكوت، يلف جسده برداء أبيض يستر عورته وبعض صدره وبعض قدميه. لا أعرف من هو صاحب الصورة، لكنّ الصورة تجسد الرغبة في مكافحة الموت ظلما والتمرد عليه.

ربما يصعب على الناس فقد الأعزاء، لذلك يمنّون أنفسهم بعودتهم وقيامتهم من جديد.

حدسي يحدثني أن «صديّق» خدعني ومنعني من العمل وأوهمني بزواج غير معلن حتى يصل إليّ في الفراش. يعتقد الرجال أن أعذارهم مقدسة لا تناقَش وأن هموم النساء مهما كانت عاتية تتلاشى مع رعشات العلاقة الحميمة. المسافة كانت هائلة بين رغبتي في إيجاد عمل شريف والقدرة على تنفيذها، فـ'صدّيق» كان دائما بالمرصاد. كرهت نفسي وكرهت وحدتي وكرهت موت أبي وأمي، أدركت شيئا واحدا فقط؛ أن «صدّيق» لا يعرف أن قلوب النساء مثل الوطن، تغفر كل شيء إلا الخيانة.

ليلة دخول الدبابات والآليات العسكرية الثقيلة إلى شوارع المدينة وأزقتها الضيقة، ابتدأت البيوت المتهالكة بالاهتزاز، كأن نوبة رعاش مرض باركنسون قد أصابها.

نقل التلفزيون حديث الضابط العسكري لجنوده بأن عليهم معاملة المكان كمدينة محتلة، ومعاملة السكان كرهائن. انفجر بركان راكد في دماغي، فطفتْ على السطح ذكريات الطفولة البائسة، واعتصرني الألم والزواج الوهمي.

في عصر اليوم التالي، دخل «صديّق» المنزل وقال:

- لقد قبضنا على مثيري الشغب، زعران ثورة الخبز في المدينة. ادخلي واستبدلي ملابسك هذه؛ فأنا مشتاق إليك يا صغيرتي.

ترك مسدسه على كرسي القش أمام باب الغرفة ودخل الحمّام. التقطتُ المسدس وأخفيته في ملابسي ودخلت الغرفة، جاء 'صدّيق' منتشيا، كنت أقف خلف الباب المفتوح، أطلقت رصاصة واحدة على رأسه، ترنح قليلا ثم استدار إليّ ثم سقط على ظهره.

كانت آخر كلماته قبيل أن يلفظ أنفاسه الاخيرة:

- شقاء القلب أشدّ من شقاء الفقر.

أحضرت سكينا من المطبخ وغرزتها في قلبه وفي كبدة سبع مرات لعلي أتطهر من عار لازمني منذ زواجنا الوهمي إلى هذا اليوم.

مات «صدّيق» ولفظ أنفاسه الأخيرة ملقى على الأرض تحت أقدامي.

صمت إلى الأبد صاحب الصوت الجهوري المرتفع، برد وانحنى إصبع يده اليمنى الشاهد الذي كان يرافق كلامه منتصبا يقترب به من وجه محدثه مرددا عبارة 'فاهم عليّ كيف' معلنا أن لا كلام صحيح غير كلامه. عيناه لامعتان تغطسان في باطن التجويف، أذناه صغيرتان كأنهما استعارة من وجه طفل صغير، شعره أسود كثيف يجمعه إلى الخلف بعناية شديدة. بقع الدم تلطخ قميصه الأبيض الرقيق، وبنطلونه الأسود المفصل من صوف الهيلد الإنجليزي، وحذاءه الجلدي اللميع. بقيت حلقة حزامه المعدنية تلمع وتعكس أشعة الشمس الساقطة عليها بخجل من خلف زجاج النافذة الوحيدة في الغرفة، كانت الغيوم متقطعة وتجري مسرعة تودع السماء إيذانا بقرب انتهاء فصل الربيع. تزيد سمرة البشرة عند 'صدّيق' درجة واحدة عن سمرة بشرة أبناء المدينة، لكنك لا تستطيع أن تتجاهلها. فكل ما في 'صدّيق' لا يمكن تجاهله.

قُتِلَ «صدّيق»، فارتعشت المدينة بأكملها، وانتثرت ذاكرتها القديمة بفوضى عارمة يصعب السيطرة عليها.

انتشر الخبر في الأزقة والطرقات وانتقل بسرعة بين الدبابات والآليات العسكرية الثقيلة التي تحتل المدينة، تقاطر الناس إلى مسرح الجريمة.

همس عاصم:

- لا قيد يُقفَل نهائيا في الدفاتر، ولا دَين يشطب بالتقادم.

قال الشيخ فتوح:

- لله الامر من قبل ومن بعد. المرء الذي يعاني من الحرمان، يصعب عليه الانحياز إلى الحقيقة.

قال الحاج إبراهيم إمام:

- إنه لأمر صعب أن يجد الانسان السعادة في حياته، مؤلم ما رأيناه، رصاصة واحدة تنهي حياة إنسان قوي وغني، لا أحد يستحق الموت بهذه الطريقة البشعة.

قال شاعر المدينة:

- ابحثوا عن المرأة، هي فقط من يصل بها الشيطان إلى الدرجة العليا من درجات سلّم الانتقام.

القلوب صناديق الاسرار، الجميع يبجث عن الجاني ولا أحد يبحث عن السبب.