((ضحك السحاب)) لـ منى حمزة.. الشُّرفة وتداعي الثّنائيّات
11:25 11-4-2025
آخر تعديل :
الجمعة
في مجموعتها الأولى «ضحك السحاب.. من مذكّرات غيمة»، اختارت الكاتبة منى حمزة (ص9) عبارة «شرفات على الحياة'؛ لتكون عنواناً لمجموعة نصوصها الأولى، وبقليل من التّأمّل يمكنُ فهمُ علاقة هذه العبارة بمجموعة النّصوص؛ إذ يمثّل كلّ منها خَطْرةً تأمّليّة في جانب من الحياة، وهي خطرةٌ تُمارَس من أعلى، بعين المُطلِّ على النّاس والأشياء وكأنّما هي بساطٌ دُونَه، ينظر فيها أكثر ممّا ينظر إليها.الشُّرفة إطلالةُ الرُّوح أكثر ممّا هي ترقُّب العينين، وتحقُّقها يمثّل في الغايةِ مماسَّة (إن لم أقل ملامسةً) لحقيقةِ المنظور إليه، وانسراباً فيه يحاولُ التقاطَ كُنهِه. ولعلّ النّصّ الأوّل في هذه المجموعة من النّصوص (ص11) «لو أنّ طيني... كانَ نُوراً» يجسّد بعُمقٍ سائرَ ما ورد في الكتاب؛ فهو يشي بحالةٍ من الفِصام الواعي، والتّناقُض القلِق السّاعي إلى طُمأنينة التّوازن، بين الأرضيّ الطّينيّ الواقعيّ والسَّماويّ النُّورانيّ المُشتَهى، وهي حالةُ الفصامِ الواعي نفسُها المنبثّة في نصوص المجموعة. تقول: «لو أملكُ أن أجمع في فنجاني نُوراً من شمسٍ تقتحمُ نافذتي، كما لو أنّنا خُلِقنا في الصُّبح نفسه، نُوراً أسكُبه في سوادٍ يطلبُ لمعاناً!» (أرى كلمة لمعاناً قلقةً جدّاً هُنا، لعلّ المفرداتِ لم تُعِن الكاتبة على انتقاءِ بديلٍ)، كأنّها تشتهي انبثاق النُّور في هذا السّوادِ لِيمحُوَه تماماً. وتتابع مستغرقةً في تأمّل وجوديّ: «لو خُلِقتُ من نُور، هل كُنتُ لأسألَ ما نفعُ الطّين المعجونِ بالدّم حين سكبَ فيه المولى من رُوحِه؟».هكذا، للوهلةِ الأُولى، في نصّها الأوّل، تكشفُ الكاتبةُ عن الأزمة العميقة الّتي يحياها الإنسانُ الحاملُ في ذاتِه ضِدَّينِ اثنين؛ الطّينيّ الثّقيل الوطأة، والنّورانيّ الخفيف اللّطيف، الطّينيّ الّذي تشكَّل جسداً بارداً يسعى، والنّورانيّ الشّفيف الفاعل في إكساب الطّينيّ معنى وُجوده، الباثّ في صقيعه الدّفءَ والحركة. وفي النّصّ نفسه ما يتمّمُ هذا ويمنحهُ لمسةً إضافيّة من التّكوين العميق للتّساؤل، وبه تكتملُ الإطلالةُ على هذا التّناقض القلق: «لو أملكُ جرأةَ شُروقِها الأبديّ'!الظّاهريُّ في الحياة ومسيرة الفلك أنّ الشّمسَ يتعاقبُ إشراقُها، وأنّه ليس أبديّاً في مرأى العينِ، فهي تُشرقُ وتَغرُب، تتراءى وتغيب، وحركتُها الظّاهريّة هي الّتي جعلت النّاس ذات حين من الدّهر يقولونَ بمركزيّة الأرضِ، ودوران الشّمس في فلكٍ حولَها. هذا في مرأى العين، لكنّ الحقيقة الثّاوية أنّها في حالة إشراق دائمة منذ كانت، حتّى حين مغيبها في مرأى عيونِ النّاس في جهةٍ من الأرضِ تكونُ مشرقةً في جانبٍ آخر منها... إنّها رحلةٌ من الإشراق الدّائم كلّ لحظة، واختفاؤُها لا يدلّ على غياب إلّا بقدرِ ما يماسُّ الحُضورُ والغيابُ خطوط الطّول. والمُشتَهى مُوافقٌ تماماً لهذه الرّؤية. الرّوحُ تعرفُ أنّ شروقَ الشّمس دائم، وهي تقرأ هذا رُغمَ أنفِ الغيابِ الظّاهريّ، وتتمنّى لو كانت قادرةً على الإشراقِ الدّائم مثلها. وتؤشّر عبارة «أملك جرأة شروقِها» على تلك الحالة من الفصام الواعي، والتّناقض القلق بين الطّينيّ والنّورانيّ في الذّات؛ هكذا تُشرقُ الذّاتُ حيناً، وتغرُب حيناً، ويتعاقبُ عليها الشّروق والغروبُ، ولا تملكُ الجرأةَ على الشّروق الدّائم، فتحتفظ لنفسِها بحقِّ الانسرابِ لحظاتٍ تُمارسُ تأمُّلها في هذا الواقع الطّينيّ الكثيف الثّقيل.إنّ هذه الحالة الموصوفة في نَصّ «لو أنّ طيني.. كان نُوراً»، تُنبئُ عن مظهرين اثنين للذّات تحيا بهما، سطحيّ يتبدّل، وعميق ثابت، ظاهريّ يتراءى للعين، وباطنيّ مُحتَجبٍ، والفاصلُ الواصلُ بينهما العَيشُ في الواقعِ برُؤيةٍ خاصّة. وهذا محضُ الاغتراب في أخصّ تفاصيله، مع أنّه اغترابٌ واعٍ، ومُعايشَةٌ مع الاحتفاظ بالمسافة، ورفضٌ عميقٌ يتلبّسُ بـ'الطّاعة»، ومُسايرةٌ للواقع مع التّجاوُر من جانب غير المُؤذي من جانب، والتّجاوُز اللّطيف المهذَّب من الجانب الآخَر. وليس يمكنُ تحقيقُ هذه كلّها إلّا بممارسةِ فنِّ التقاطِ ما هُو سماويٌّ نورانيٌّ شفيف خفيف حُلو جميل في الطّينيّ الكثيف الثّقيل السّخيف المُرّ القبيح، والالتذاذ به، وتثمين وجوده، واستمدادِ الطّاقة الإيجابيّة منه، ثمّ العودة من جديد إلى رقيم الذّات وكهفها العميق لتأثيثه بلوحاتِ هذه الالتقاطات. تدهشك الصّورة في قولها (ولادة، ص17): «منذ ثلاثة أيّام أخرجُ إلى الحديقة، أبلِّل القُماش كي لا يجفّ، تلوحُ لي أفواه البذرات العطشى تبحثُ عن ثدي أمّ»، كما تستولي عليك عبارتُها «صديقاتي الغيمات» في قولها من النّصّ نفسه (ص17): «صديقاتي الغيمات، كم بحثتُ عن رسومٍ في انبساطهنّ على لوح السّماء الصّافي!».والكهفُ الرَّقيمُ هنا ليس رطباً مُوحشاً كريهَ الرّائحة مُظلماً، على العكس تماماً؛ إنّه حيثُ يحيا النّورُ فورتَه الدّائمة، هو موطنُ الذّاتِ المؤثَّثُ بكلّ جميلٍ عذبٍ صافٍ لطيفٍ يشعُّ بهاءً ورقّة. ولهذا تراها في النّصّ نفسه تقول: «لو أنّها لا ترمي ضوءَها إلّا على أزرار البرقوق والورد!». هذا ما تلتفتُ إليه الذّات المُطلَّةُ من شُرفاتِ الحياةِ على الحياةِ نفسها: «أزرار البرقوق والورد». و'الأزرار»، هنا، مؤشِّرٌ آخرُ على الثّنائيّة نفسها؛ فهي تمثّل حالة الكُمون الأولى قبلَ أن تتشكَّل الأزرارُ حبّات برقوق ووُروداً؛ كانَّةً في «كُمِّها» قبل أن تتبدَّى في جسدٍ يراهُ النّاظر؛ هي الحالةُ «الكَهفيَّة» للبرقوقةِ والوردة، كما أنّ النّور الإلهيّ الشّفيفَ المسكوبَ في الجسدِ هو الأصلُ الذي شُكِّل الجسدُ ليحملَه، ويمثِّل حركتَه في الحياة. حبّةُ البرقوق حينَ تتشكَّل تصبح جسداً، وهذا الجسدُ يطرأ عليه ما يطرأ على أجسادِنا الطّينيّة المُتهافتَة حين تكبُر وتنضج وتصبح شهيّة للأكل، أو تتجعّد وتذبُل وتسقطُ عائدةً إلى «أمّها الأرض»، وكذلك نحنُ. وكذلك الوردةُ أجمل ما تكون وهي «زِرّ»، لكنّ المرءَ لا يكتفي منها بذلك، يرتقبُها ريثما تتفتّحُ وتكبرُ وتُقطَف، ثمّ لا يُلبِثُها الأوانُ فتذبُل وتسّاقط بتلاتُها وتجفّ، فتؤوب إلى حالتها الأولى: الطّين.والقراءة في نصوص «ضحك السّحاب... من مذكِّرات غَيمة» تؤكّد ما انفتَح عليه النّصّ الأوّل، وكلّها تنسابُ في هذا المسارِ من «الإشارة» المجازيّة استعارةً أو كنايةً إلى تلك الثّنائيّة. ويمكنُ للقارئ أن يتلمّس هذا المسارَ منذ لحظات الطّفولة الّتي رسمتْ منها الكاتبةُ «التقاطاتٍ» دالَّة، إلى الصِّبَا الأوّل، ثمّ الزّواج، فالولادة العسيرة، فالأُمومة، فكبر الأبناء، ثمّ الإحساس بالكِبَر (في الخمسين) وبدء أماراتِه بالظّهور «تجاعيد البشرة حول العينين، واللّحم الزّائد تحتَ الذّقن».وفي هذا النّصّ ملمحٌ آخرُ ينبغي الالتفاتُ إليه؛ لدلالتِه المُغايرة. يلمحُ القارئُ في النّصّ القصير هذا التّشابُه بينَ رغبة الذّات في: «لو أملكُ في فنجاني نُوراً من شمسٍ... أسكبُه في سوادٍ يطلبُ لمَعاناً»، وفي: «ما نفعُ الطّين المعجونِ بالدّم حين سكبَ فيه المولى مِن رُوحِه؟». ثمّة تقابلٌ ظاهرٌ يجعل: (الطّين المعجون بالدّم = السّواد الذي يطلبُ لمعاناً؛ سكبَ فيه المولى = أسكبُه في؛ نوراً من شمس = من روحِه).ويثيرُ هذا التّقابلُ تساؤلاً لا بدّ منه: أتُحاولُ الذّاتُ ممارسةَ ما فعلَه المولى؟إنّ القصدَ من التساؤُل، هنا، يتجاوَزُ عينَ السّؤال، ويسعى لإدراكِ المسعى الّذي تُحاولُه الذّاتُ في هذه النّصّ خاصّة، بل في عُموم النّصوص الّتي تضمّنتها المجموعةُ «ضحك الغيم... من مذكّرات غيمة». والإجابةُ العابرةُ السّريعة: البتَّة، لا. ومن المتعذِّر فهمُ المغزى إلّا بجعلِ السّوادِ معادلاً للطّينيّ الّذي هو خاصَّتُها، لا الطّينيّ الذي يمثِّل البشرَ، والنُّورانيّ بصفتِه الخاصّة «روحها». ولعلّ هذا ما تجسّده أمنيّتُها «لو أملك جرأة شُروقِها الأبديّ»، ويمثّل بحالة قُصوى حالة القلق الوُجوديّ العميقة في الذّات. المسارُ المُشتَهى لهذه الحالة هُو حالةُ الشّرنقة الّتي تنبثقُ منها الفراشةُ بعدَ كُمونٍ.وإذا كان النُّورانيّ يمثِّل السّماويّ الرّوحانيّ في الطّينيّ، فإنّ للماء رمزيّته العميقة الدّالّة بمعيّته؛ ذلك لأنّ الماءَ هُو الّذي جعلَ التّرابيَّ طينيّاً، وهو أصلُ الحياةِ في الكائناتِ الأرضيّة كلّها وفق الآية الكريم: (وجعلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ)، ومثلها: (فأحيينا به الأرضَ بعدَ موتِها). الماءُ حياةٌ للطّينيّ، والنُّور الشّفيفُ امتدادٌ سماويّ نورانيّ في الأرضيّ الطّينيّ. هكذا تقرأُ قولها في (في بحيرة الدّبّ الأكبر، ص62): «أتراكضُ هُناك وأقفُ لحظاتٍ أمام الكاميرا، علّني أصيرُ يوماً قطرةً من هذه الفتنة، أو شعاعاً من هذا الخيال»، وهي تؤكّد قولها في فاتحة النّصّ نفسه (ص60): «فأنا الّتي اشتهيتُ امتدادَ الماءِ بينَ قلبي والسّماء».