خدمة الدفع الالكتروني
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

المداريّ« لـ سامانثا هارفي.. حين يصبح الفضاء مرآةً للإنسان

No Image
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ
سعد صبار السامرائي (كاتب عراقي)

يقول رائد الخيال العلمي آرثر سي كلارك: «لا بد أن الكون مليء بالأصوات، من النجوم لبعضها بعضاً بآلاف اللغات، في يومٍ ما لا بد أن نلتحق بتلك المحادثة».

أتساءل أحياناً: أين يقع الخيال العلمي في مدار الأدب العربي؟ ولو ازدهر هذا النوع في عالمنا العربي، فهل سينافس الروايات النسوية، أو الأعمال التي تعالج قضايا الأقليات، أو تتناول الحروب، أو تنبش في الموروث، أو تستكشف موضوعات الميول الجنسية؟

لا أدري، لكنني أعلم أنه كلما اتسع نصيب الأمم من العلوم الطبيعية، واتضح أمامها سبيل المعرفة، وطالعت من أسرار الكون ما كان مستوراً، ازداد الخيال العلمي فيها خصباً ورحابةً، إذ إنّ الخيال ظلٌّ ملازمٌ للعلم، لا يفترقان ولا يزدهر أحدهما إلا بازدهار الآخر. فما رأينا في أمةٍ بلغت من العلم مبلغاً إلا وكان الخيال العلمي لديها وافراً، يطرق من عوالمه أبواباً لم تكن تُطرق من قبل، ويكشف في مغامراته عن آفاقٍ لم تبلغها عينٌ ولم يدركها حسّ.

وليس الخيال العلمي إلا ابن العلم وحفيده، فإن ضاقت الأمم بالعلوم الطبيعية وتنكّرت للبحث الدقيق في الحقائق الكونية، انحسر الخيال العلمي عندها، وذبلت أفكاره، واستعصت رؤاه، وانكفأت أمجاد الفكر فيها على ذاتها، كأنها تستوحي الماضي وحده وتُهمل المستقبل وأحلامه.

تمثّل رواية «المداريّ» (Orbital) للكاتبة الإنجليزية سامانثا هارفي، لقاءً مدهشاً بين الخيال العلمي والدراما الفلسفية والرواية الأدبية. نُشرت الرواية عام 2023 عن دار «جوناثان كيب» في المملكة المتحدة، ورغم قلة عدد صفحاتها، التي لا تتجاوز 200 صفحة، فإنها تبدو أقرب إلى قصة طويلة منها إلى رواية، ومع ذلك حازت سريعاً تقديراً بالغاً، حتى فازت بجائزة بوكر لعام 2024 وجائزة هاوثورن المرموقة، لتصبح أول رواية تدور أحداثها في الفضاء تفوز بهذه الجائزة الرفيعة. كما وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة أورويل للخيال السياسي.

يكشف هذا الاحتفاء عن عملٍ تخطّى حدود التصنيف الأدبي التقليدي، ووسّع أفق التأمل لدى قرّاءٍ يبحثون عن نصٍّ يفتح أعينهم على عوالم الفكر والعاطفة أبعد مما يتصورون. تضيف الرواية بُعداً عميقاً يسائل مكانتنا في الكون، ويستدعي تأملاً لا ينفصل عن مصيرنا.

استوحت هارفي مادّة روايتها من متابعتها بثّاً مباشراً متواصلاً للأرض من محطة الفضاء الدولية، إذ رأت في ذلك المشهد مرآةً عجيبةً تكشف هشاشة البشر حينما يُنظر إليهم من علياء الكون. بدأت كتابة روايتها في عام 2010، لكنها توقّفت عند 5000 كلمة، إذ اعتراها تردّد سببه عدم خبرتها المباشرة في السفر إلى الفضاء الشاسع. ثم جاءت جائحة كوفيد-19 في عام 2020 لتمنحها دافعاً حاسماً لاستكمال النص، بعدما أيقنت أنّ جرأة الخيال قد تخرق قيود الواقع. شعرت الكاتبة بأنّ رصد الأرض من هذا العلو يدعونا إلى إعادة تقييم حياتنا اليومية.

لم يكن هدف هارفي تقديم خيالٍ علميٍّ مكتظّ بالأجهزة المستقبلية والمخاطر الفضائية، بل ابتغت رسم «ريف فضائي» يزاوج بين رهبة الكون وصفاء التأمّل الإنساني. فحرصت على استدعاء قضايا جوهرية، كالإيمان والفنّ والحزن، وأدرجتها في سياق التطوّر التقني والتقدّم البشري، لتشير إلى تلازم الوجدان والعقل في كل مرحلةٍ من التاريخ. عبر هذا النهج، أرادت تذكير القرّاء بأنّ الانشغال بالتفاصيل العلمية لا يلغي حاجة الإنسان إلى فضاءٍ رحبٍ يراجع فيه معاني وجوده، خاصّةً حين يسافر في مدارٍ يعلو وطنه الأم. إنّه مزجٌ بين رهبة الأبعاد الكو?ية والتوق الإنساني إلى استكشاف ذاته بلا قيودٍ مصطنعة.

في قلب الرواية تظهر فكرة الطيران بعيداً عن الأرض لفهمها من منظورٍ آخر، وتجسّدها عبارة رائد الفضاء بيترو: «إذا استطعت الابتعاد عن الأرض بما يكفي، ستتمكّن أخيراً من فهمها». تمثّل هذه الكلمات محوراً يجسّر الهوّة بين الواقع والمجاز، إذ تُلقي ضوءاً على نزوع الإنسان إلى مسافةٍ تمنحه رؤيةً أشمل لحياته. وكأنّ هارفي توحي بحتمية التخلّي عن الضوضاء اليومية في سبيل التأمّل في أسرار الوجود، ما يمنحنا بوصلةً جديدة لقراءة حاضرنا ومستقبلنا. فيومئ هذا الابتعاد إلى تحرّر العقل من الضجيج، ويسمح للروح باستقبال أفقٍ رحب.

تدور أحداث الرواية على مدى أربع وعشرين ساعة يتابع فيها القارئ ستة روّاد فضاءٍ على متن المحطة الدولية، وهم: بيترو الإيطالي، ورومان وأنتون الروسيان، ونيل البريطانية، وشون الأمريكي، وتشي اليابانية. تتقلّب بهم دوامة العمل اليومي، بين رصد الميكروبات وتحليل بلّورات البروتين وجمع المؤشّرات الحيوية، في مشهدٍ يعكس جهدهم الدؤوب للاستزادة من المعرفة. تتسلّل إليهم ومضات من ماضي كلّ شخصية، ما يضفي بعداً إنسانيّاً يكسر رتابة المكان المغلق ويبيّن كمّاً من الحنين والشوق المسكوت عنه. تتعانق خبراتهم في المدار، لتبرهن أنّ ال?نسان يحمل وطنه في وجدانه أينما حل.

يشكّل عامل الزمن في الرواية عنصراً جوهريّاً يربط التجربة العادية بتلك الفضائية؛ ففي حين يُعَدّ اليوم الأرضي دورةً واحدة، تُكمِل المحطة الفضائية ست عشرة دورة كل أربع وعشرين ساعة. يتلاشى معنى الصباح والمساء على متْن المحطة، فلا يعود الرائد يدركه إلّا كوميضٍ خاطف يُذكّره بكونه في مدارٍ متسارع. تعكس هارفي بهذه الصورة امتزاج الماضي والمستقبل في لحظةٍ متداخلة، فتجعل من التسارع الفضائي رمزاً لتبدّل وعينا بالوقت، ما يكشف سبلاً جديدة للتساؤل عن ماهيتنا وموقعنا من الكون. تومض في هذه اللحظات تساؤلاتٌ عن استمرارية الإ?سان أمام التقلّص التدريجي للزمن المعهود.

رغم أنّ بعض كتّاب الخيال العلمي قد يستغلّون هذا الفضاء لنسج حبكاتٍ مثيرة أو صراعاتٍ ملحمية، إلا أنّ هارفي تذهب منحىً آخر، أقرب إلى الشعرية التأمّلية. إنها لا تركّز على الانفجارات الكونية أو الأخطار المروّعة، بل تكتفي بإيماءاتٍ كالموت المفاجئ في عائلة إحدى الشخصيات أو النبوءة بوقوع إعصارٍ بعيد. لا تتحوّل تلك المنبّهات إلى أحداثٍ كبرى تقلب مسار الرواية، إذ يبقى الأفق الأوسع مهيمناً: أفق المدار الفسيح الذي يتضاءل فيه كل طارئٍ أمام هول الفراغ، وتلوح فيه الآمال والمخاوف كأصداءٍ بعيدة. عبر هذا الأسلوب تنطمس النهايات، ليظلّ الانبهار بالكون همّاً أكبر من حبكةٍ ضيّقة.

وسط هذا الهدوء الظاهري، تلوح أسئلة مصيرية عن مستقبل الإنسان إذا ما تطوّر الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وتُركت المهامّ الفضائية للأجهزة وحدها. يلوّح بيترو باحتمالٍ يستفزّ العقول: هل يأتي يومٌ يتنكّب فيه الإنسان دوره، فيتولّى المعدن البارد أسرار السفر الكوني؟ غير أنّ هارفي لا تركن إلى سوداويةٍ مفرطة، إذ تضع ثقتها في طاقة المشاعر وأهميّة الخبرة الذاتية. هكذا يصبح النصّ احتفاءً بالوعي الإنساني وعلامةً على أنّنا ما نزال بحاجة إلى صوت القلب مهما تطوّرت الحسابات.

يبدو أسلوب هارفي أقرب إلى المعزوفة المتدرّجة؛ تخبو فيها الأحداث الخارجية بينما يتجلّى البعد الوجداني. كأنّ الرواية أقرب إلى قصيدةٍ طويلةٍ تمعن في مواجهة الصمت الكوني وتسبر أعماق النفس البشرية. يسترسل السرد في عرض شرارات التأمّل التي تبرق في أذهان الروّاد، فتشعر أنّ المدارات تندمج بإيقاع الفكر. ومن هذا التلاحم تنشأ حالةٌ من الانسياب: أحداثٌ صغيرة تشرق ثم تغرب، وأفكارٌ تولد ثم تخبو، ليبقى الفضاء الواسع مجالاً لحوارٍ لا ينقطع مع الوجود. تنعكس تلك الحالة على اللغة، فتبدو العبارات موجزةً كأنّها ومضات وسط فراغٍ ?ائل.

تتركنا الرواية أمام منظورٍ فريدٍ للفهم: أن نبتعد عن الأرض حتى نعاينها بكامل تناقضاتها وجمالها وهشاشتها. تذكّرنا رواية المداري بأنّ الاغتراب المكاني قد يكون سبيلاً للعودة إلى جوهرنا، وأنّ الأدب -كالرحلات الفضائية- قد ينقلنا بعيداً عن المألوف كي نرى ذواتنا في مرآةٍ أصفى. وهكذا يرتفع نصّ هارفي إلى مصافّ الأعمال التي تؤسّس جدلاً بين المعرفة والوجدان، وتعيد صياغة علاقتنا بالكوكب وأسراره، ليكون الابتعاد عنه حافزاً للتبصّر في مصير البشر. ينتهي المطاف بالقارئ متسائلاً عمّا إذا كان الابتعاد يقودنا في النهاية إلى ذو?تنا.

ورغم نجاح الرواية الكبير، وحصولها على جوائز مرموقة، إلا أنها لم تُترجم إلى العربية حتى الآن؛ ما يطرح أسئلة حول مكانة الخيال العلمي في الثقافة العربية. فهل هذا الإغفال بسبب ضعف الإقبال على هذا النوع من الأدب في الوسط العربي، أم إن دور النشر العربية تتردد لأسباب أخرى لا نعلمها؟ تبقى هذه الأسئلة مطروحة وتستحق التأمل، بخاصة في ضوء التقدير العالمي الكبير الذي حظيت به هذه الرواية الفريدة.

محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF