فاجأتني ميرال الطحاوي بروايتها (أيام الشمس المشرقة) الصادرة في طبعتها الثانية عن دار العين القاهرية عام ٢٠٢٢، إذ وجدتها تأخذ مسارا مختلفا عما عهدته في رواياتها السابقة ('نقرات الظباء»، و'الباذنجة الزرقاء»، و'الخباء»، وصولا إلى «بروكلين هايتس').
ففي تلك الروايات كنت أقترب كثيرا من نبض الكاتبة التي تنحت شخصياتها الروائية بمهارة فأدخل معها في عوالم جديدة؛ حيث الثقافة البدوية والوعي الحاد بظلالها الصارمة التي تلقيها على كاهل الشخصيات المتحركة على مسرح النص، فكنت أغوص معها خلف الحروف وفوق الحروف وأقفز معها لأكون وجها لوجه مع مأساة إناثها المكبلات بقيد الثقافة الأبوية والمكممات بتقاليدها وأعرافها الحادة.
ولكني في «أيام الشمس المشرقة» وجدتني وجها لوجه مع ذاتي، مع محنتي في النأي عن البلاد والعباد، وإن كنت قد لمحت ذلك وأنا اقرأ روايتها «بركلين هايتس»، ولكني تأكدت أكثر وأنا أجوس عوالم «أيام الشمس المشرقة'؛ حيث نجحت في أن ترسم كولاجات لأنوات نأت عن الديار والأهل فبدت بشحمها ولحمها متحركة على مسرح الأحداث.. كما أني كنت أتابع أخبار تلقف الوسط الإبداعي العربي لذلك المنجز المتميز وأستمع بشغف إلى ما تقوله ميرال في حواراتها التلفزيونية عنها وعن أبطالها، وخصوصا رأيها بأن «ما يكتبه الكاتب في رواياته هو خلاصة خبراته الذاتية وإن كان يحرص على أن لا تتطابق».
كنت أسرح في تفاصيل ذلك المسمى المكاني (الشمس المشرقة) والذي كثيراً ما تردد على مسامعي دون أن أتوقف عند تفاصيله، فـ «الشمس المشرقة» اسمٌ شائع هنا في المهجر الأمريكي، فهناك مثلا في مدينة «لاس فيجاس» شارع يسمى «شارع الشمس المشرقة» (Sunrise Street)، وفي ولاية فلوريدا هناك مدينة «الشمس المشرقة» (City of Sunrise).
ففي كل مرة أرى هذا الاسم المكاني تأخذني رقته وشفافيته ولكن أن يكون هذا الاسم المكاني عنوانا لرواية فهذا ما لفت انتباهي وشدني حين تلقيت الرواية في طبعتها الأنيقة من ميرال الطحاوي.. ميرال التي نتقاسم بعض همومنا اليومية عبر الهاتف وعلى مدار سنوات إقامتنا بعيدا عن الأهل والاحباب، نتقاسم همومنا الأكاديمية والاجتماعية حيث تقيم في آيرزونا وتدرّس في جامعتها وحيث أقيم في ميشيغان وأدرّس في جامعتها.
'أيام الشمس المشرقة» شكلت عنونة مراوغة ومشاكسة لأفق توقع القارئ العربي. إذ إن «أيام الشمس المشرقة» لم تكن مشرقة، بل إن المخيال الروائي سلب تلك الكلمات معانيها المعجمية فبدت خاوية تماما؛ بل إنها تدخل مسارا تهكميا لتعرف أنها «أيام الشمس الحارقة»، وتتكشف تلك المشاكسة الدلالية من الوهلة الأولى التي تصدمك فيها الرواية بمشهد مصرع «جمال»، الابن البكر لـ «نعم الخبّاز» الذي قرر أن ينهي حياته بنفسه لتتلون تلك الاستهلالة بحمرة قانية تشبه حمرة الشمس ولكنها حمرة تُخلف في القلب الحسرة والمرارة.
فالرواية برمتها تشع سرديا بشخصيات متنوعة ثقافيا تشكل موزاييك المكان (الشمس المشرقة)، ولكنها سرعان ما تتكاثف عليها ظلال المكان الموحش الواعد بالوجع ومرارة الخيبات. تلك الشخصيات كانت تتلاحم مع بعضها البعض حين تشترك في تفاصيل الوعي بأهمية (المكان/الحلم/ المنفى/ الكابوس)، لكنها تتساقط شظايا ورماداً تحت إهاب الفقر والغربة؛ زد على ذلك أن المتخيل الروائي رسم بحيادية مطلقة ما يجري خلف كواليس المنافي التي تبدو لمن لم يهاجر أمكنة محشوة بالجواهر واللؤلؤ والمال الفائض الذي يتسرب من جيوب المهاجرين المتخمة ليتساقط على الأرض من دون أن يكترثوا إليه.. تلك المنافي التي لم تهب أصحابها سوى الوجع وغياب الطعم الحقيقي للحياة حين يتحول الكد ديدنا وغياب الكرامة ناموسا وضياع القيم ميزانا والوحشة قوتا.
شخصيات «أيام الشمس المشرقة» نزلت من عليائها لتجد نفسها في خانة النفايات البشرية وأشلاء كلاب البحر التي يلفظها البحر الهائج بعيدا عن جسده، شخصيات رمت بالذاكرة المفعمة بالألفة والصحبة في مكب المنافي.
أما تقنية السرد فهي مغايرة للسائد إذا كان المتخيل السردي ينسج منعطفات دائرية المسار حول كل شخصية، إذ لا توجد بطولة مطلقة للرواية، بل إنك إزاء لفيف من الأبطال الذين سقطت عن حياتهم ورقة التوت فتعرت مشاعرهم واحتياجاتهم فسقطوا معها واستسلموا لعصف المنفى بثقافته التي تمسخ القيم وتبيح ارتكاب المحظورات.
تلك الحركة الدائرية للسرد تتسع حين تصف الشخصيات الثانوية التي ركّبت ملامح الشخصية الرئيسية ولكنها تضيق حين تظلل تلك الشخصية بهالات الوحشة والانكسار حد التدهور والموت أحيانا.. فشخصية «نعم الخبّاز» مثلا عرفناها من خلال ابنها البكر «جمال» الذي بدا منذ الصفحات الأولى للرواية مضرجا بدمائه: «حين دخلت البيت، وجدتْ (نعم الخبّاز) بكرَها الذي جاوز التاسعة عشرة بقليل ممددا على الأرض وجهه إلى الأسفل والطلقة الذي اخترقت دماغه خرجت من الخلف استقرت بالحائط، رأت جسده الضخم ممددا في بركة من الدم الطازج الذي لم يتجمد بعد» (9).
وينتقل السرد مباشرة من حادثة إلى جمال إلى حوادث مماثلة مرت بحياة «نعم الخبّاز»، تأمل التالي: «قبل عدة أشهر حدثت تلك الضجة أمام منزل جارتها (سوزانا) بعد أن قتلت ابنتها (يولاندا) بعد طلقات من سلاح صديقها الذي قتل نفسه أيضا وعبرت الجثتان في سيارة الإسعاف سريعا، لم يكن هناك وقت ليفكر الناس كيف ماتت (يولاندا) الصبية الجميلة ابنة الثامنة عشرة، تلك البنت التي عرفوها منذ كانت تلعب مع الصبية حول البيوت الخشبية المتناثرة، راقبوا جسدها وهو يتفتح باكتمال ونضارة مثل ربات البهجة قي الأساطير القديمة، ثم شهدوا خروجها المأساوي من الحياة» (ص10).
ثم يخلق السرد من تلك الحادثة عتبة ليتحدث عن معاناة «سوزانا» بعد فقد ابنتها، ثم ينتقل ليصف حادثة قتل شبيهة طالت الشاب «أوسكار': «انطلقت رصاصة ما لتستقر في رأسه، حين خرج الجميع ليتابعوا بقية المشهد كانت جثة الشاب (أوسكار ملقاة امام ماكينة الصرافة، لم يستطيعوا تقدير حجم النزف على السترة الحمراء» (ص10).
ثم يمعن السرد في وصف ملابسات مقتل «أوسكار» لينتقل إلى حوادث قتل خارج أمكنة «نعم الخبّاز» حين تسرد الرواية ما حصل، تأمل مثلا: «تشتعل حوادث إطلاق النار كل مرة في أماكن غير متوقعة، فقبل عدة أشهر شهدت إحدى المدارس الأولية عراكا مصحوبا بإطلاق النار في غرفة مدير المدرسة اثناء اجتماع مجلس الآباء» (ص11).
ثم يفصل السرد في حادثة قتل بعينها لينتقل إلى كوارث قتل حصلت في مدرسة (مونتن ليك) الثانوية، ثم يعود بعد ذلك إلى «نعم الخبّاز'؛ حيث تستبطن إحساساتها إزاء حدث انتحار الابن «جمال': «(نعم الخبّاز) كانت تعتقد أن إطلاق الرصاص.. لا يمكن بالطبع أن يصل إلى بيتها ولكنه وصل. ذات مساء خريفي انفجر الرصاص المكتوم، ورأت كيف تحول جسد بكرها إلى بركة دم، بعد ذلك حدث ما يتكرر حدوثه في مثل تلك الأحداث الدامية بأن يكتب رجل الشرطة تقريرا مختصرا للواقعة مفاده: «إطلاق رصاص من الفم عبر الجمجمة، استقرت الرصاصة في الحائط، الضحية يرتدي (شورت) رياضيا أسود عاري الصدر، تفوح من فمه آثار الماريجوانا ويحمل في يده (تلفون) نوكيا أحمر اللون، وجارٍ إكمال البحث عن أسباب ودوافع الانتحار» (ص11).
ليس هذا فحسب، فالسرد ينقل أيضا كيفية تعامل الثقافة العربية مع الموت، إذ يرد: «أثناء تشريح الجثة توافد أصدقاء (أحمد الوكيل) الذين يديرون المغسلة الإسلامية للدفن الشرعي، وتحدث الإمام (أبو عبد القادر) عن الميت والغسل وصلاة الجنازة وإجراءات الدفن وموقع المقبرة» (ص12).
ثم تنتقل كاميرا السرد المحمولة من بيت «نعم الخبّاز» في «الشمس المشرقة» إلى بيتها القديم لتظهر زوجة أبيها (الريّسة) المتربعة على عرش قلبه، ويظهر الوجه القاسي للأب، وتظهر معه طفولة «نعم الخبّار» البائسة وتفاصيل الندوب التي حملتها على وجهها، تأمل الآتي: «في الرابعة من عمرها انكفأت (نعم) على راكية النار، وترك ذلك ندوبا عميقة في الشق الأيمن من وجهها الأسمر البالي، وزادت الخدوش من لمعان عينيها الصغيرتين اللتين تشبهان عيون الثعالب الغاضبة.. بحسب روايتها أيضا، حدث ذلك في يوم شتائي أوحلت فيه الشوارع في الحارات الضيحة وتجمدت أطراف الصبية الذين يركضون طوال يومهم في أزقة تلك القرى الصغيرة التي كانت تنام غرب الدلتا، قامت زوجة أبيها التي يلقبونها بـ (الريّسة) بإشعال النيران وتوسطت المجلس الذي تعبّأ بدخان أرجيلتها» (ص17).
ثم تتحرك كاميرا السرد المحمولة لتنقلك بمهارة إلى راهن «نعم الخبّاز» في مدينة «الأيام المشرقة» وملامحها الخارجية، حيث يداها التي غضنتهما خدمة البيوت وغسل الحمامات وأصابعها التي يبّستها المنظفات، ثم ينسحب السرد ليضيء ملامح «أحمد الوكيل» -زوج «نعم الخبّاز'- وقد ظهر كضحية من ضحايا «نعم الخبّاز» التي التفّت عليه كعقرب -على حد تعبير الرواية- لتقنعه بالزواج منها، إلا أنها سرعان ما أدمنت القدح من رجولته ليغيب وتغيب أخباره معه تاركا ولديهما (عمر وجمال) اللذين كانا يتنمران على ملابسها التي تشتريها من البالة تارة وتارة على لغتها الإنجليزية الركيكة وتحديدا «عمر» الذي كان يسخر من محاولاتها البائسة لتكون جزءا من مجتمع «أيام الشمس المشرقة».
كاميرا النص المحمولة بهذه الحركة اللولبية تنجح في تكريس الصراع النفسي الحاد الذي يعصف بـ «نعم الخبّاز» التي لم تقصّر في أن تبذل من أجل ولدَيها الوقت والجهد، إلا أن شراسة الخاتمة تفي جب الوحشة والألم؛ حين انتحر «جمال» وغادرها «عمر» قاطعا الصلة بها تماما لتبقى هي كنحلة دؤوبة في خلية فارغة من العسل.
وتنجح كاميرا السرد المحمولة في أن تنتقل برشاقة إلى شخصية «سليم خليل النجار» الذي يحفر له مكانا مميزا في هذه البقعة من الأرض، وهي شخصية مثخنة بالانتكاسات النفسية العميقة، فـ «سليم» أشبه ما يكون بموشور ضوئي يشع في كل الاتجاهات، فهو تارة يعكس وجه الإنسان العربي المستلب الذي التصق بـ «الشمس المشرقة» التصاقا قهريا قدريا، وهو الذي نَسجَ حوله السرد القصص والحكايات ليكون بؤرة تجمع الأمكنة العربية في سياقات مختلفة: «بحسب رواياته المتضاربة وُلد في مخيم في جنوب لبنان، وشهد الحرب الأهلية وتوابعها، وانفجرت عبوة ناسفة في وجه أمه التي ماتت متأثرة بجراحها، لم يغفر (سليم) لوالده زواجَه السريع بعد موت الأم، وبعدها رحل الأب مع زوجته الجديدة إلى دمشق وأرسل (سليم) إلى خاله» (ص248) في البرازيل؛ ليتسلل إلى «أرض الشمس المشرقة» بعد موت خاله.
وفي حكاية أخرى يصبح «خليل النجار» مدرس اللغة العربية الذي عاش في إحدى دول الخليج مع إخوته السبعة، أستاذا في جامعة الموصل، ولكن «سليم» يتذكر أحيانا أنه قضى أجمل أيام طفولته في بيوت أخواله في الأردن وإن ظلت أجمل أيام شبابه هي التي قضاها في جامعة حلب؛ حيث تخرج في قسم الأدب الإنجليزي. لكنه في رواية أخرى تلقى تعليمه في جامعة بغداد، وفي أروقتها اكتسب تلك اللكنة التي جعلت إنجليزيته فخيمة وكلاسيكية، وهناك تعرف على علياء الدوري... لم يعبر على مصر لأسباب لا يتذكرها لكن جده تعلّم في «الأزهر»، وطُرد أيضا لأسباب سياسية قبل أن يستقر في مخيم اليرموك الذي عاشت فيه عائلته (ص250).
ويسترسل المتخيل السردي في حياكة القصص حول تلك الشخصية لتعطيه هويته التي التصقت بالأفق العربي قبل أن يلفظه رحم المكان فيستقر في منفاه، أضف إلى ذلك أن علاقته بـ «علياء الدوري» (العراقية) -التي شكلت وجهاً ألفته المنافي بعد سقوط النظام العراقي- تعكس انقلاب الموازين وغياب القيم.
خلاصة القول، فإن مرايا «أيام الشمس المشرقة» عكست الحركة اللولبية للسرد؛ بمعنى أنها تبدأ من الشخصية (أ) ثم تنتقل منها إلى الشخصية (ب) ثم إلى الشخصية (ج) ثم إلى الشخصية (ح) ثم إلى الشخصية (خ)، لتعود مرة أخرى إلى الشخصية (أ) في إطار نسج محبوك يُظهر ملامح تلك الشخصيات الخارجية والداخلية ومن خلال عصف سردي متقن تتحدد سرعته بحسب مقتضيات الأحداث وتنامي الشخصيات وتوتر الحوارات المثخنة بالإحساس بالتشظي والشتات..
هذا السرد يرتفع ويهبط على شكل دوائر سردية يرصعها الأسلوب الشعري الذي يرقى تارة ليكون السرد برمته شذراتٍ شعرية متقنة، وتارة أخرى شذرات تاريخية تحفر في ذاكرة المكان وذاكرة الشخصيات المتحركة عليه، وتارة ثالثة شذرات جغرافية تجلي تضاريس المكان ومعتقداته.
(كاتبة وأكاديمية عراقية تقيم بالولايات المتحدة)