جميعنا يتذكر ذلك الزمن جيداً، حين كانت الأيام تمضي على مهل، وكأنها تمنحنا فرصة لنعيش كل لحظة بكل تفاصيلها، حينها لم تكن الحياة تلاحقنا بوتيرتها السريعة كما تفعل اليوم، ولم تكن العلاقات تختصر في رسائل مقتضبة أو مكالمات عابرة، فقد كان كل شيء أكثر بساطة، وأكثر دفئاً، والجميع يجتمع دون موعد، ويطرقون أبواب الجيران بلا تردد، ويلتقون في المساء عند الأقارب، حيث تمتد الجلسات بالسمر والضحكات، ولا يشغلهم شيء عن بعضهم سوى متعة الحكايات وبهجة اللقاءات.
لم يكن جيل الطيبين مجرد فترة زمنية مرّت، بل كان أسلوب حياة قائماً على المحبة والتواصل الحقيقي، إذ لم تكن هناك الضغوط المتسارعة التي نعيشها اليوم، ولم تكن التكنولوجيا قد تسللت إلى كل تفاصيل أيامنا، وكان الحديث ممتداً بلا عجلة، والنظرات تحمل ألف معنى، والابتسامات صادقة لا تحتاج إلى رموز تعبيرية لترسلها، والجميع ينتظر المناسبات بلهفة، ليلتقوا ويجتمعوا. الحياة آنذاك كانت تدور حول البساطة، الأمهات يطهون الطعام بحب، والآباء يعودون من أعمالهم ليجدوا الجميع بانتظارهم، لا أحد مشغولاً بهاتفه، ولا أحد يسرق وقته من أسرته ليقضيه في عالم افتراضي، وحتى الأطفال كانوا أكثر سعادة، ألعابهم كانت في الحارات والحدائق، ضحكاتهم تملأ المكان، وكانت صداقاتهم حقيقية لا تحكمها الشاشات أو الأرقام على مواقع التواصل الاجتماعي، لم يكن هناك قلق من الوقت، ولم يكن الانشغال بالمحتوى الرقمي يسرق أعمارهم قبل أوانها. وكان لرمضان في ذلك الزمن طعم خاص، حيث كانت الأجواء تمتزج بروحانية الشهر الكريم ودفء العائلة والمجتمع، والجميع ينتظر آذان المغرب ويجتمعون حول مائدة الإفطار، ويسمعون صوت الدعاء، والبسمة ترتسم على الوجوه، ولم تكن هناك حاجة للهواتف أثناء الجلسات، لأن الأحاديث كانت تكفي، والقلوب قريبة، والجميع يتسابق بعد الإفطار لصلاة العشاء في المسجد، ويخرجون بعد التراويح للقاء الأصدقاء والجيران في جلسات رمضانية مليئة بالبهجة والسكينة، فقد كان رمضان شهراً يجمع القلوب، ويعيد إلينا شعور الانتماء والترابط الذي نفتقده اليوم. اليوم، تغيرت الحياة، أصبح الجميع منشغلاً، والمواعيد تُحدد مسبقاً، واللقاءات باتت نادرة، وحتى حين تجتمع الأسر والأصدقاء، الهواتف تسرق الانتباه، فالعلاقات أصبحت أقرب إلى الواجب منها إلى المتعة، والوقت يمضي سريعاً دون أن نشعر به. أحيانًا، نجد أنفسنا ونحن نسترجع تلك الأيام، نشعر بحنين جارف لتلك البساطة، لذلك الدفء الذي كان يملأ البيوت والقلوب، فهل يمكن أن نستعيد بعضاً من روح جيل الطيبين؟ هل يمكن أن يعود لتجمعاتنا رونقها، ونمنح أنفسنا فرصة للابتعاد قليلاً عن صخب الحياة الحديثة؟ ربما لا نستطيع إيقاف الزمن، لكن بإمكاننا أن نحافظ على جوهر تلك الأيام، أن نجعل لقاءاتنا أطول، وحديثنا أصدق، وأن نتعلم كيف نعيش اللحظة كما كنا نفعل من قبل، فقد يكون الماضي قد رحل، لكن دفئه لا يزال يسكن قلوبنا، وبإمكاننا أن نعيد بعضاً منه إلى حاضرنا، لو أردنا ذلك حقاً.
