الرأي الثقافي

((لوحة سريالية)) لمحمد كامل حامـد.. المواءمة بين الخطابين العـقلاني والسردي

صدرت مجموعـة «لوحـة سريالية» للكاتب المصري محمد كامل حامـد عـن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع (2023)، وهي تصحب القارئ في رحلة ماتعـة، وقد أحببتُ عالمها؛ فكانت هذه القراء.

«طريقٌ وعـر» يمكن وضع هذه القصة في سياقها الاجتماعـي حول إشكالية «الذكـر اللعـوب» ممن لا همّ له غـير توريط النساء بعلاقات غير جادة تتنافى ومنظومة القيم. بطل القصة عسكري في أحد السجون يتسلم رسالة من سجينة ويترتب عـليه تسليمه إلى شقيقها، وقد أجاز العسكري لنفسه فضول قراءة فحوى الرسالة.

ينجح الكاتب في قنص لحظـة السرد من زاوية ذكيـة بحيث لا يتضح لنا مكانه من الحدث » كراوٍ عـليم»، وساق الحدث ضمن حدوده الدنيا وبتكثيف شديد اقتصر على صفحتين ونصف الصفحة هو العمر الزمني لعموم القصة التي لخصت مأساة امرأة لم تتحمل خيانة الرجل الذي أحبتـه فعمدت إلى قتلـه. برع الكاتب في لحظة التكثيف، لكنه حرم نمو الحدث في إطار الحكاية وسرّع من حرق بقية مراحل القص وكأنما هو في عـجلة من أمره. ربما تورط في الشفقة على شخوصه يريد لهم الخلاص من أوجاعـهم حيث لا يطول عـذابهم! ولا أدري ما سبب ترك القصة بنهاية مفتوحة، هنا ثمـة بتر فني لم يكن في مكانه الصحيح.

ثمـة احتمال آخَـر نرجحـه في استعجال الحدث (مصير السجينة)، يتركه الكاتب وفق عـواصف القدر ليخبرنا ما بين السطور أو خلفها بأن قصص الحياة تسير بمستويات متفاوتة وليس هناك من ختام حقيقي سوى سطـوة الفناء الذي نتجرع كأسـه مرغـمين؛ حيث لا نعلم ما قد تجره عـلينا الحياة الدنيا من تحولات. تحولات ليست بالضرورة تتوافق وأمزجتنا وما نحب أو نتمنى، فالحياة تراوغـنا نحن البشر وتنصب فخاخها حولنا، ونقع في العديد من التجارب التي تمتحننا.

السجينة التي لم يمنحها الكاتب اسماً، وهذه لفتـة ذكيـة تُحسب له بحيث ترك طـيفها عـائماً في فضاء الممكن، يجعلها كشخصية حمالة أوجـه قادرة على اكتساب هويتها الوطنية في أي قُطْـر يمكن أن تنتسب إليه. هي ليست محصورة في بيئـة القص، وإنما ترحل بمأساتها لتعبر الحدود؛ فتخاطـب موضوعـياً الإنسان في البُعد الأوسع جغرافياً. وهذا يدل على وعـي الكاتب بفنـه وما هضم من خبراتٍ مع رحلة الكتابة.

«مواجهة» تُعد ترجمـة قاسية لسيكولوجية المثقف الذي يعيش وسـط الجماهير ويبدأ من حولـه حصارٌ بألف وجــه! الكاتب في داخله إنسان شفيف الروح لا يقبل بالكذب ويمقت الغـش والتزلف والنميمـة وتبادل الكراهيات داخل بنية المجتمع العربي. يعـن للكاتب العربي البحث عـن «يوتوبيـا» يحلم بصفاء بيئتها لتنقذه من فساد مدنيتنا المعاصرة التي تحمل أمراضها المجتمعية ولا شفاء لها مما ألـمّ بها من خطايا وشرور.

يبدو أن عنصر الحوار مفقود في القصة، لكن مع التريث نكتشف أن عنصر الحوار فيها «يتفجـر» من داخـل شخصية كاتب مغمـور سرعـان ما يذوب وسط زحام ملايين البشر، فهو مجرد رقـم لا أكثر ولا أقـل، هذا الرقم «سين من الناس» ضاقت عـليه نفسـه وأضحى أسير ضغـط يكاد يُفقده توازنه النفسي، ثم نـراه في ختام القصة على عـتبة طبيب نفسي يحاول إنقاذه من عـذابات نفسـه الضائعـة التي لا تجد بوصلـة تهتدي بها في ظلمات الطريق. لذلك فهي قصة برعـت في التقاط لحظـة التنوير الفاصلة، وكشفت عـذابات المثقف العربي والغربة التي تأكل من عـمره وحتى عـقـله، ووفقاً لشاكر عبد الحميد في كتابه «الغربة.. المفهوم وتجلياته في الأدب': «يغطي مفهوم الغرابة سلسلة من الفئات الدلالية؛ فمن ناحية يرتبط هذا المفهوم ببيت الإنسان، بوطنه، بمكانه، بالمجال المألوف والحميم الخاص به».

وما أصعب أن تكـون اليوم عـربياً؛ يترتب عـليك دفع فواتير كثيرة قد لا يكون لك عـلاقة بها لكنها تبقى ضرائب واجبة الدفع لكونها مرتبطـة بجينات بني جـلدتك حيث لا فكاك لك منها حتى النفَس الأخير! البطولة التي رأينا تجلياتها تمثلت في الحدث «غـربة المثقف» كمدلول إشكالي عـويص بطبيعته الحضارية الضاربة في عـمق المأزق الواقعي الذي يفرض تحدياته على المـرء.

قصة «مواجهة » من حيث المضمون حملت إثم الكاتب الغريب في وطـنه، وهي تثير القلق؛ فتركتني أتامـل «أنـاي» وأغـرق ثم أفكـر حائراً.. كيف سأحمي نفسي من دائـرة الزلزال لكيلا أفـقد اتزاني النفسي في عـالمٍ مستحيل يغريك بالجنون لكن حتماً لا تستريح؟! «مقابلة» تتمحور هذه القصة عـند نقطـة جوهرية تلخص جبروت المرأة على المرأة، الأنموذج الذي يزج به الكاتب امرأةً في مركز وظيفي مرموق تؤنب موظفـة برتبة دنيا على تقصيرها في عـملها. ما يعنينا أن الكاتب يعود من جديد وينقب عـن شخصياته المسحوقة والمقصيّة في غـربتها النفسية والمطالبة بتحمل أخطاء مجتمعها وويلاته ونكساته وحتى خيباتـه.

محمد كامل حامد يؤطـر الشخصية وفـق جغرافية البيئة المحلية التي ينطلق منها، وتعمل هذه البيئة على تحفيز العوامل الطاردة للروح الإيجابية وتملأ المكان بدخان الإحباط النفسي. فالمرأة/ الموظفـة لا يشفع لها إخلاصها في العمل ولا إنتاجيتها، وهي في مفهوم النظم العربية الإداريـة مجرد ترس في ماكينة عملاقة لا يكترث بها كبار الموظفين في تراتبية القرار الاقتصادي المهيمن.

الملفت أننـا نشهد في هذه القصة تكنيك السخرية السوداء التي جاءت في قفلة الختام وذلك عندما وضع الكاتب تلك السيدة المتسلطـة في لحظات ضعفـها وفرض عليها دفع فاتورة كونها أنثى في نهاية الأمر، لمّا جاءها اتصال هاتفي تركها بوجه محتقن كمن سقط قناعـها الذي كانت ترتديه، وأضحت مسلوبـة الإرادة، وسلطتها ليست أكثر من مارد الدخان حينما يرتفع في السماء لكنه يتبدد ولا يقدر على إيـذاء أحـد لكونه لا شيء! من هذا المنطلق فإن الرؤية القصصية لمحمد كامل حامد تتعمق في استجلاء مضامين الحياة، وهذه هي واحدة من ملكات القص المطلوب توافرها في شخصية الكاتب؛ أن يعرف خارطـة عملـه القصصي ولا يمشي في نفق مظلم يتخبط ثم يعلن للقراء اعـتباطياً بأنه كاتب وأديب من دون رصيد تدعـمه موهبة السرد التي تدرك أين تمضي وما هو مشروعـها.

إن الجانب السيكولوجي في «لوحة سريالية» هو المدماك الأساس في هيكلية البناء السردي الذي نهضت عـليه واتكأت قصص المجموعة. وتموضعت جُـلّ القصص في مواجهـة مجتمعها ليس من باب وصايـة المثقف الفوقيـة التي تنظـر للجماهير على أنهم «غـوغـاء»، بـل عـملت على رصـد حركـة الواقع لكن دون تقوقع سلبي يفضي إلى توجيه أصابع الاتهام ثم الهـرب وحسب.

هذه المجموعـة القصصية واءمت ما بين خطابيها العـقلاني والسردي وأوجـدت لنفسها مكاناً طيباً في النفس وفي المكتبة السردية العربية المعاصـرة.