تجري قصيدة «غزة: يا أيها الشعراء كفُّوا عن دمي» في ديوان «محجر الدموع جف» للشاعر زهير توفيق، مجرى الدم في العروق، فلا تهادن ولا تستكين، بل تشتعل ناراً تحت رماد الكلمات، يوقظها الغضب، ويبعثها الألم، ويرفعها الصوت المجلجل في وجه صمتٍ أبكم. وهنا لا يستجدي الشاعر ولا يستعطف، بل يقف على منبر الجرح، شاهراً قصيدته كسيف لا يلين، يخاطب بها الخطباء الذين أرهقوا الهواء بخطبهم، بينما الأرض تمور تحت أقدام المذبوحين، والسماء تنطفئ بلون الرماد.
يبدأ النص بصوتٍ احتجاجي متوثب، حيث تتسع الدائرة لتشمل كل من يظن أن القول وحده يكفي لدرء الدم. في هذا المدخل الجارح، لا يحتمل الشاعر الذرائع، يطاردها كظلٍّ خجول في ضوء الحقيقة، فالكلمات لا تُوقف نزفًا، ولا ترمم شظايا مدينة تحولت إلى صدى صرخات. وهنا، يأتي الاحتجاج رصاصاً ينطلق من فوهة اليأس، إذ يتقمص الشاعر صوت غزة ذاته، لتتحدث القصيدة بلسان الطين المحترق، والجدران المهدمة، والأجساد التي صارت علامات استفهام معلقة في الهواء.
ثم تتبدل النغمة، ويتغير المشهد، ليفسح المجال لوصفٍ مشهديٍّ دقيق، حيث تتحول القصيدة إلى عدسة تكشف المشهد على اتساعه: الأشلاء المتناثرة كحروف لم تكتمل، الدماء التي تكتب تاريخًا لا يُمحى، والأمهات اللاتي يعانقن الفراغ حيث كان أطفالهن قبل لحظة فقط. هذا التصوير السينمائي الذي يعجز على الوصف، يمتد ليُشعر القارئ وكأنه وسط الركام، يستنشق الدخان، يسمع أنين المصابين، ويشعر ببرودة الموتى الذين لم تسعفهم صلاة المآذن ولا عويل الأخبار المتكررة.
ولكن لا يكتفي الشاعر بالمشهد الحاضر، فيمد خيوط الدم عبر الزمن، مستحضرًا تواريخ لم تبرأ من جراحها. يسحب الزمن إلى الوراء، ليعيد تشكيل المأساة عبر استدعاء سقوط الأندلس، وصيحات المقاومة في وجه الغزاة، فيؤكد أن ما يحدث في غزة ليس وليد اليوم، فهو امتداد لصراع ممتد منذ أن خطّ التاريخ بأظافره على الجدران. إن هذا الربط يجعل غزة جغرافية ترتفع إلى مستوى الرمز، حيث تصبح كل المدن المحتلة غزة، وكل شهداء الحرية أبناءها.
ثم، حين تبلغ القصيدة ذروة الغضب، لا تهادن، تصرخ في وجه الجميع، رافضةً صمت العالم، وتخاذل من كان يُفترض أن يكون نصيرًا. ويسخر الشاعر من الخطب التي لا تنقذ شهيدًا، ولا ترفع عن جريحٍ حجرًا، فغزة لا تحتاج إلى الكلمات، تحتاج إلى فعلٍ يسند جدرانها المنهارة، ويد تردّ عنها سهام الغدر. ففي هذا التصعيد، تتردد أصداء التكرار، حيث يصرخ النص أكثر من مرة: كفّوا عن دمي! وكأن هذا النداء طعنة تطالب القارئ بأن ينزف معها، أن يشعر بالحريق الذي يلتهم الأرض دون أن يجد من يطفئه. ولكن الشاعر، رغم كل هذا الغضب، لا يستسلم لليأس، فيعود ليؤكد أن غزة، رغم الخراب، تولد من جديد. وفي مشهد الختام، لا يهبط النص إلى الحزن، بل يرتفع إلى الأمل، حيث تصبح الدماء بذورًا، والموت حياةً جديدة. هنا، تبلغ الرمزية ذروتها، فالشهداء ليسوا نهاية الحكاية، فهم بدايتها، والمدينة، وإن احترقت، فهي تستعد للنهوض كطائرٍ يعرف كيف يبعث من الرماد.
بهذا البناء المتصاعد، وهذه اللغة التي تتراوح بين الاحتجاج والمرثية، وبين الغضب والأمل، تتحول القصيدة إلى وثيقة وجدانية للمقاومة، حيث لا تكون مجرد كلمات تُقرأ، فهي تجربة تُعاش، تجعل القارئ شريكًا في الألم، وشاهدًا على الصمود، ورفيقًا في دربٍ لا ينتهي عند حدّ الدمار، وإنما يمتد نحو النصر الذي لا يأتي إلا لمن لم يعرفوا الهزيمة يومًا.
يتكئ البناء الفني في القصيدة على تصعيد درامي يتناغم مع تصاعد الشعور بالاحتجاج والغضب، فلا يبدأ النص متكلفًا، يأتي كموجة تنطلق من أعماق الحنق لتضرب الشاطئ المتكلس بالصمت والخطب الجوفاء. والإيقاع الداخلي ينبض بحرارة الجرح، فلا يهادن ولا يخفت، يتسارع كنبض مذعور يركض في جسد مكلوم، حيث تلتقي التفعيلة بالحركة، ويصبح النسق الشعري انعكاسًا مباشرًا لحالة التوتر والاختناق التي تعيشها غزة، فلا تتوقف الجمل عند حد البيان، فتنفتح على الامتداد الصوتي الذي يرسّخ الشعور بالاحتدام والرفض.
يبدأ النص بنداء حادّ يقف عند تخوم الاستعارة، فلا يكون الشاعر مجرد ناقلٍ للوجع، إنه صدى للصراخ المكتوم. يتداخل التكرار بوصفه تقنية تعزز البناء الموسيقي، فلا يأتي اعتباطيًا، فهو يحاكي ضربات المطرقة على جدار اللامبالاة، إذ يُستدعى فعل «كفّوا» مرات متتالية، ليصنع هذا التكرار توترًا صوتيًا يتناسب مع احتدام الموقف. وعلى امتداد النص، لا يتراجع الإيقاع، ويتخذ شكلًا تصاعديًا ينقل القارئ من دائرة الانفعال إلى أتون التفاعل، حيث تُدمج الأوامر والاستفهامات داخل النسيج الشعري، لتخلق انكسارات صوتية أشبه بالهتاف الغاضب.
ينمو، في هذا التدرج المتوتر، التصوير الشعري ويتعالى على المباشرة، حيث تُقدَّم المشاهد كلوحات بصرية ناطقة بالألم. فالأشلاء حروف ناقصة في جملة الوطن، والدماء مداد يكتب به الشهداء تاريخهم. وهنا تتحول اللغة إلى كاميرا سينمائية، تلتقط التفاصيل بأبعادها النفسية والحركية، فيصبح الدمار ذاكرة محفورة في الوجدان، والصمت فراغًا أو ثقلًا يمزق الهواء. وتتكثف الصور المتحركة في انتقالها من جثة تحت الأنقاض إلى يد ترتجف على صدر قتيل، ومن سماءٍ يغطيها الدخان إلى أرضٍ تحتضن الذاكرة بحنان دامٍ. وتجعل هذه المشهدية النص متجاوزاً البنية الخطابية نحو أفق درامي، حيث يتحول القارئ من متلقٍّ إلى شاهد على الحدث، يراه كما لو كان يحدث أمامه. ولا يكتفي النص بالحركة البصرية، فيستدعي طاقة صوتية هادرة، فالمفردات تتشح بخشونة الصوت الغاضب، حيث تُختار الألفاظ بعناية لتعكس وقعها العنيف، فتتكرر كلمات كـ'دم»، «هدم»، «حريق»، «رصاص»، «صرخة»، لتخلق معجمًا خاصًا يضفي على النص طابعًا ناريًا. وعلى الضفة الأخرى، تأتي الكلمات المغايرة مثل «ولادة»، «قمح»، «نبوءة»، «قيامة»، لتكون الضفة المقابلة لهذا النهر الدموي، حيث تضع النص بين قوسين: الموت والبعث. هذه المفارقة اللغوية ليست مجرد تنويع أسلوبي، لكنها ركيزة جوهرية في بناء القصيدة، حيث يضع الشاعر كل صورة في مقابل نقيضها، ليجعل الأمل يكبر من بين شقوق الألم.
وفي النسيج العام، يتخذ البناء الشعري مسارًا يتقاطع فيه الزمن، فالحاضر يرابط بالماضي عبر استدعاءات تاريخية تتغلغل في جسد النص، فتكون غزة مدينة في أوج اشتعالها مرآة لكل المدن التي سقطت من قبل. ويأتي الزمن دائرياً، حيث يستحضر سقوط الأندلس، ويعود إلى أيام صلاح الدين، ثم يتجاوزهما إلى الحروب الحديثة، ليؤكد أن ما يحدث ليس طارئًا، فهو جزء من دورة تاريخية لا تنتهي. يتجاوز الشاعر عبر هذه التقنية الإطار المحلي للقضية، ليجعلها نقطة محورية في صراع إنساني أوسع، حيث تصبح غزة استعارة للصمود في وجه كل قوى القهر.
أما على مستوى المفارقة، فإن النص يعجّ بلقطات تضع التضاد في قلب المشهد، حيث يتم تقديم الخطابة كفعل مناقض للفعل الحقيقي، والوعود كنقيض للدماء، والخراب كحالة تناقض خطابات النصر المتكررة. هذه المفارقة تبلغ ذروتها في مشهد الخطباء الذين يملؤون الشاشات بكلماتهم المنمقة، بينما تتكوم الجثث في الأزقة، وكأن العالم قد صار مسرحًا عبثيًا يسوده العجز والتنظير. عبر هذه التناقضات، يضع الشاعر القارئ أمام مرآة ساخرة، حيث يبدو التناقض بين القول والفعل أكثر فداحة، ويصبح الصمت ذاته جريمة.
ولا يتوقف البناء عند الغضب وحده، بل يختتم برؤية تحاكي الأسطورة، حيث تتحول غزة من ضحية إلى نبوءة، ومن مدينة محاصرة إلى أيقونة تتجدد كلما ظن الأعداء أنهم وأدوها. يمنح هذا التحول القصيدة بعدًا ملحميًا، حيث يصبح الصمود قانونًا طبيعيًا في نسيجها، والموت فصلٌ أولي في كتاب البعث الجديد. وهنا، يتجلى الصوت الداخلي للشاعر، فلا يودّع غزة بالدموع، إنه يعيد تشكيلها مكاناً لا يموت، وفكرة لا تُهزم، وروح تتجدد مهما احتدم الخراب.
بهذا البناء الفني المتصاعد، تأتي القصيدة سرداً مأساوياً، وملحمة وجدانية تتحرك بين الألم والأمل، بين الصراخ والصمت، بين الرثاء والثورة، لتخلق نصًا يُقرأ ويُحسّ، يوقظ في داخله نارًا لا تنطفئ، ليجعل من الشعر شاهدًا لا يشيخ على الحقيقة التي تتكرر كل يوم في شوارع غزة.
وتنسج القصيدة خيوطها في نسيج محكم، حيث لا تتيه في تفرعات الخطاب، بل تمضي كالسهم نحو هدفها، تتبع مسارًا مدروسًا ينمو داخلها كما ينمو الجرح في جسد الحقيقة. فلا انفلات في بنيانها، ولا استطرادٌ خارج عن صلب الفكرة، كل حركة تأتي داخل النص تطوراً طبيعياً في البناء، وكل جملة بمثابة درجة تُصعد القارئ نحو ذروة الانفعال، حيث لا تفلت الخيوط من يد الشاعر، ولا تتشظى المعاني إلى مقاطع متنافرة. وهنا، الوحدة ليست قيدًا، إنها روحٌ تسري في القصيدة، تشدّها من أول نداء حتى آخر ومضة أمل، فلا يشعر القارئ أنه أمام مشاهد متفرقة، فهو أمام لوحة تتشكل ضرباتها اللونية بشكل متكامل، حتى تكتمل الصورة في الختام.
والنداء الأول الذي يبدأ به الشاعر يشكل إشارة البدء التي تحدد مسار القصيدة، حيث تنطلق من الاحتجاج الصارخ على الكلمات التي لا تحمل سوى الفراغ، وتنمو عبر كل مقطع لتُظهِر أن هذا الاحتجاج موقف متماسك ينبثق من إدراك عميق بأن الخطابات لم تعد توازي الدم النازف. بهذا التمهيد، لا يترك الشاعر مجالًا للخروج عن المسار، ويمهد أرضًا صلبة يسير فوقها النص بثبات، حيث يتحول الغضب إلى مشهدية مؤلمة، تتوالى الصور فيها دون أن تتفكك، وتتشابك كما تتشابك الأنقاض فوق الأجساد المبعثرة في شوارع غزة.
فالتطور الموضوعي لا يأتي مفاجئًا، فيتنقل النص من موقف إلى آخر بانسيابية مدروسة، حيث يبدأ بوصف العجز، ثم يغوص في صلب المأساة، ثم يستدعي التاريخ ليضع الأحداث في سياقها الأوسع، قبل أن يبلغ قمة التحدي، ثم ينخفض الإيقاع تدريجيًا ليختم القصيدة برؤية تحمل الإصرار على البقاء. فلا تقف المشاهد كجزر معزولة، ولا تأتي الاستدعاءات التاريخية كحشو زائد، بل تلتحم مع الفكرة الأصلية، لتعزز المعنى بدل أن تشتته؛ استحضار سقوط الأندلس، واستدعاء ملامح الحروب القديمة، لا تنفصل عن خطاب اللحظة الراهنة، ويجعله أكثر تجذرًا، إذ تبدو غزة كرمز ممتد يتكرر عبر الزمن، وكأن القصيدة تقول إن التاريخ ليس سوى دائرة مغلقة، وإن ما يحدث اليوم ليس سوى صدى لما كان، وما سيكون.
ولا يسمح التوازن الداخلي في القصيدة للفكرة أن تضيع وسط الانفعالات، حيث يعرف النص متى يرتفع الصوت ومتى يخفت، فلا يظل في دائرة النواح، ولا ينحصر في الغضب وحده، ويتحرك وفق إيقاع نفسي محسوب، يجعل القارئ يعايش كل درجة من درجات التجربة الشعورية دون أن يفقد الخيط الناظم الذي يشدّ الأبيات بعضها إلى بعض. لهذا، يبدو تحول النص من تصوير المأساة إلى صيغة التحدي أمرًا يمثل نتيجة حتمية، إذ لا يمكن للموت أن يكون نهاية المعنى، ولا يمكن للركام أن يكون المشهد الأخير.
ويأتي الختام كصدى لكل ما سبق، فلا ينفصل عن المقدمة، ولكنه يعيد إنتاجها في شكل مختلف، حيث يعود النص إلى فكرة المقاومة، لكنه يمنحها بعدها النبوي، إذ تصبح غزة نبوءة تكتب مستقبلها بنفسها، كأنها قمح ينبت رغم المحرقة، أو شجرة تضرب جذورها أعمق كلما اشتد عليها الحصار. بهذا الختام، لا يشعر القارئ بأنه خرج من النص، فهو يعيش داخله، في انتظار ما ستقوله الأيام القادمة، وكأن القصيدة لا تنتهي عند آخر بيت، وتظل مفتوحة، تنتظر أن يكتب التاريخ نهايتها الفعلية.