الرأي الثقافي

موسوعة ملخصات أمهات كتب التراث في الطب: ابن إسحاق والطبري وابن قرّة

يواصل د.أيوب عيسى أبو دية بحثه الموسوعي في أمهات الكتب التراثية، فبعد كتابه «موسوعة ملخصات أمهات تراثنا: الإنسانيات: في مائة كتاب وكتاب» الصادر عن وزارة الثقافة (2021)، نراه يوجه دفة البحث نحو كتب التراث المختصة بعلوم الطبيعة والطب والصيدلة، إذ صدر له ضمن منشورات وزارة الثقافة (2024) كتاب «ملخّصات أمّهات التراث في علوم الطبيعة والطب والصيدلة»، الذي قام بمراجعته وتحريره د.همام غصيب، ويضم ملخصات لسير أعلام مختصين في هذا المجال، وبعض كتبهم التي تعد من أمهات كتب التراث، وتتضمّن موضوعاتها العلوم الطبيعيّة والتطبيقيّة والطبّيّة والصيدلانية وغيرها.تكمن أهمية الكتاب الذي بين أيدينا كونه يغطّي حقبة تاريخيّة مهمّة من الحضارة العربيّة الإسلاميّة امتدّت من القرن الثامن للميلاد لغاية نهاية القرن السادس عشر للميلاد. ويعد مستوى تلخيص الكتب فريدا من نوعه في المكتبة العربية، ويلقي الضوء على أعمال مهمة من الناتج الفكري الذي يتناول العلوم الطبية في الحضارة العربية الاسلامية، والتي كانت مصدرا أساسيا قامت عليه العلوم الطبية في الغرب.تبدأ الموسوعة في الأعمال الطبية بكتاب: «العشر مقالات في العين» لصاحبه حُنين بن إسحاق الذي توفي عام 874م، حيث يُعد الكتاب من أقدم الكتب في طب العيون التي صُنّفت بطريقة علميّة ومتكاملة. ينقسم الكتاب إلى عشر مقالات: الأولى في طبيعة العين وتركيبها؛ والثانية في طبيعة الدماغ ومنافعه؛ والثالثة في العصب الباصر والروح الباصر، وكيف يكون الإبصار؛ والرابعة بمثابة توصيات بشأن حفظ الصحّة؛ والخامسة في أسباب أمراض العين؛ والسادسة في معالجة أمراض العين؛ والسابعة في قوى جميع الأدوية عامّة؛ والثامنة في أجناس الأدوية للعين؛ والتاسعة في مداواة أمراض العين؛ والمقالة العاشرة في الأدوية المركّبة.فمثلا، في حديثه عن أنواع الأورام ومعالجتها في المقالة التاسعة بعنوان «في مداواة أمراض العين»، يصف مرض السرطان بأنّه الورم الحادث من المرّة السوداء، والشفاء منه عسير، وأنّه «بعد استحكامه فإنه بالأدوية لا يبرأ إلا بالقطع. وقطعه يعسر لعلل ثلاث: أما الواحدة فلما يعرض من النزف إن كان العضو كثير العروق أو عظيمها. والثانية لما يحدث من ألم الأعضاء الرئيسة إن ربطنا العِرق. والثالثة لأنه لا يمكننا في كل موضع أن نكوي الموضع بعد القطع، لأنه ربما كان العضو مجاوراً لعضو شريف».ثم تنتقل الموسوعة إلى كتاب «فردوس الحكمة في الطب» لابن سهل الطبري (توفي 874 م)، والذي يُعد من أقدم الموسوعات في الطب الإسلامي. هنا ينطلق الطبري للحديث عن علم الأجنّة، وفيه شرح مفصّل للتزاوج، والحمل ومشكلاته، والولادة ومشكلاتها، ونموّ الجنين، وما تظهر عليه من علل، كنقص الأعضاء مثلاً. ويحتار المرء في مسألة انسجام علوم ذلك العصر المستمدّة من الإغريق مع العلم الحديث، وخاصّة حين يقول على لسان أبقراط: «وإنّه إذا غلبت على الزرع «النضفة» الحرارة كان الولد ذكراً، وإن غلبت عليه البرودة كان الولد أنثى، ولذلك صار الذكر أسرع حركة». وقد أثبت العلم الحديث أنّ الحيوانات المنويّة الذكريّة أسرع من الحيوانات الأنثويّة ولكنّ عمرها أقصر، وتتأثّر أكثر بالبرودة، لذلك فهي تكون أسرع للدخول إلى الرحم قبل الحيوانات الأنثويّة.ومما يلفت النظر أيضا حديثه عن زواج المرأة البيضاء من رجل أسود، وكيف يمكن أن تولد لهما ابنة بيضاء. وكيف يكون محتملا لهذه الابنة البيضاء أن تلد ابناً أسود حتى لو تزوجت من رجل أبيض، هذه معلومات في علم الجينات، ربما تم استنباطها بالتجربة، أمّا الاستدلال الأخير على التمايز في تأثر الزرع (النضفة) بالحرارة والبرودة، فمن غير المعروف كيف تم الاستدلال عليه، والمطلوب أن تسهم دراسات تاريخ العلم في عقد مقارنات بين معلومات الكتاب التاريخيّة والعلم الحديث.ويخصّص الطبري باباً للحديث عن الجهاز الهضمي، ووظائف الكبد، والكلى، والدماغ، والأعصاب، والقلب، والجلد، والشعر، والشيب، والظفر، والأسنان. ويبدأ بطرح علامات الأمراض العامة، وأعراضها، ومبادئ المعالجة لأعضاء الجسم انطلاقاً من الرأس حتى أخمص القدمين، وبطريق منهجيّة. فيتحدث عن أمراض الرأس، والإصابات التي يتعرّض لها الانسان، وأمراض الدماغ، كالصّرع، والصداع، والشقيقة، وطنين الأذن، والدوار، وفقدان الذاكرة، والكوابيس، ثم ينتقل إلى أمراض العيون، والجفون، والأذن، والأنف، والوجه، والفم، والأسنان، فالأمراض العصبيّة، كالتشنج، والكزاز، والشلل، وغيرها. تليها أمراض الحلق، والصدر، والأوتار الصوتيّة، فأمراض المعدة، والكبد، والقلب، والرئتين، والمرارة، والطحال، والأمعاء، والأعضاء البوليّة، والتناسليّة، وغيرها.ويمضي الطبري فيخصّص جزءاً هاما ًللحديث عن أثر البيئة في تشكيل صورة الإنسان، ولونه، وحجمه، وطبيعة شعره، ولسانه، وفكره، وما إلى ذلك. ويمتد حديثه للنفس فيعدّها منفصلة عن الجسم. كذلك يميّز بين النفس والعقل والحواس التي تُنتِج الوهم. وينتقل بعدها إلى تربية الأطفال وكيفيّة المحافظة على صحّتهم، واختيار أنواع الطعام المناسب لهم، والذي لا يسمن. ويضع نصائح حول كيفيّة الوصول إلى حمية مناسبة في الغذاء للوقاية من الأمراض، الباطنة منها والظاهرة.ويخلص القارئ إلى أن موسوعة الطبري، التي تنسجم في مضمونها مع عنوانها (فردوس الحكمة في الطب)، شاملة وافية تنتقل من الكلّيّات إلى الجزئيّات، وتستعرض الأمراض في أنحاء الجسم كافّة، فتشرح أعراضها، وطرق الوقاية منها، ومعالجتها. ولا تغفل المعالجة النفسيّة، حيث ركّز الطبري على العلاقة المهمّة بين الإرشاد والمعالجة، وعزا الشعور بالمرض إلى الأوهام، أو التخيّل، الذي يرسّخ الحالة المرضيّة، ويزيدها هولاً.ويمكن النظر إلى موسوعة الطبري على أنها أسّست للتخصّصات المختلفة في علم الطب، وتحديداً طب الأطفال، وعلم الأجنّة، وتخصّص الأمراض الداخلية، وتخصّص الأنف والأذن والحنجرة، وغيرها.أما كتاب «الذخيرة في علم الطب» فصاحبه ثابت بن قرّة (توفي 901 م)، الذي يشاع عنه أنه بدأ فكرة التخصّص في الطب، حيث كرس جهوده في تخصّص الأمراض الجلديّة، ولكنه لم يتوقف عند هذا، بل مضى إلى تخصصات طبّيّة أخرى، كطب الأطفال، فركّز على شرح الأمراض التي تصيبهم، كالجدري، والحصبة، وشكل ذلك إسهاماً كبيراً في انطلاقة الطب في أوروبا، بشكل متوازن مع ازدهار العلوم الطبيعيّة والتجريبيّة التي أسّست في مجملها للنهضة الأوروبيّة الحديثة والثورة العلميّة الكبرى.وتحدث ثابت بن قرّة أيضا عن أمراض الهزال والسمنة، حيث كشف عن الآثار الضارّة للمواد الدسمة، والدهون المتراكمة في الجسم، وأثرها على صحّة الإنسان، فبين أسبابها، وآثارها، وطرق معالجتها. وتصدّى لأنواع الصداع التي تصيب الإنسان، وميّز بين أنواع مختلفة لمرض الشقيقة، ووضح كيفيّة معالجة الصداع بالأدوية والأغذية المختارة. كذلك، وضع شروحاً مطوّلة للأمراض العقليّة، والنفسيّة، والباطنيّة، والعصبيّة، حيث وصف عدداً من الأمراض النفسيّة، مثل السبات والماليخوليا، كما شخّص مرض الصّرع، وميّز بينه وأعراض السكتة القلبيّة.ودرَس أمراض القلب، وأمراض الكِلى والمثانة، وشرح كيف تتولّد الحصى في الكلى والمثانة في «رسالة في توليد الحصاة»، وربط ذلك بأنواع الأغذية، وتراكم الأملاح وجزيئات المواد. كما شرح طريقة إدرار البول، باستخدام الأغذية والأدوية، وفسّر الأسباب العضويّة التي تؤدّي إلى التبوّل اللاإرادي، كضعف المثانة عند الأطفال والشيوخ، أو حدوث جروح، أو كدمات، أو أورام.وتمضي موسوعة د.أيوب أبو دية في تناول كتاب «الذخيرة في علم الطب والصيدلة» لثابت بن قرة، فتشير إلى اهتمامه بالأمراض الجنسيّة، وشرح أعراضها، والكشف عن أسبابها. إضافة إلى شرح أمراض النساء والتوليد، مثل اختناق الرحم، وأسباب الحمل وانقطاعه، ووصف كيفيّة التعامل مع الجنين والمشيمة، وذلك في «مقالة في صفات كون الجنين». واهتم ثابت بن قرّة بالجهاز الهضمي أيضاً، من خلال حديثه عن أمراض، مثل انتفاخ المعدة، وفقدان الشهيّة، وأمراض القولون والأمعاء، والمغص الذي يصيب البطن، وأمراض الكبد والطحال، وما يصاحبها من أعراض واضحة، كصفرة في الجسم، وفقدان الشهيّة في الأكل.وتشير الموسوعة إلى أن ثابت بن قرة تمكن من تشريح العين، وكتب رسالة «في علم العين وعللها ومداواتها»، كما كشف عن أمراض الأنف والأذن والحنجرة، وشرح أسبابها، وبين طرق معالجتها، وتحدّث عن أمراض الجهاز التنفّسي، كالزكام، والربو، والنزلة الصدريّة. ولم يغفل عن شرح أمراض الفم، والأسنان، وأمراض اللثّة، وطرق معالجتها. وتحدّث عن السموم وأنواعها، ففتح باب علم الأوبئة، مشيرا إلى الأمراض المعدية، وكيفيّة انتشارها، ووسائل الوقاية منها.قُسم كتاب «الذخيرة في علم الطب والصيدلة» إلى واحد وثلاثين باباً، تناولت أربعة منها فقط طرائق المحافظة على الصحّة، بينما بحثت بقية الأبواب في الأمراض الظاهرة والباطنة والمعالجة الجراحيّة، مرتبة وفق أسبابها، أو بحسب أعضاء الإنسان التي تتأثر بها. ويتبع كل مرض من هذه الأمراض كيفيّة المعالجة، بحسب الوصفات الطبّيّة التي كانت متداولة وشائعة، علما بأن معظمها مأخوذ عن جالينوس، وبعضها عن أبقراط، وغيرها من الأطبّاء الأقدمين. ومن اللافت إشارات ثابت بن قرّة في عدد غير قليل من المواضع إلى مشاهداته الخاصّة للحالات المرضيّة ونتائج تجاربه؛ الأمر الذي يجعله من أوائل أصحاب المنهج التجريبي في الطب.