منذ وصول جلالة الملك للولايات المتحدة الأميركية بزيارته الأولى للادارة الجديدة وبدء اجتماعاته مع كبار المسؤولين بمختلف القضايا التي تهم الطرفين الصديقين، كانت الندية بالتعامل سيدة الموقف وسجلت حضورا مميزا، وقد تجلى ذلك بوضوح عند وصول جلالته للبيت الأبيض وطريقة الاستقبال التي تليق به، حيث كان الرئيس الأميركي بانتظار جلالته الذي ترجل من السيارة المقلة له، فصافح الرئيس الأميركي بما يتواءم والأعراف الدبلوماسية ويعكس الثقافة الهاشمية بالتعامل مع الحدث والموقف، مصافحة باليد وكانت له الابتسامة التي أعطتنا الأمان ?قوة الموقف الأردني المعبر عن تطلعات هذا الشعب، بل لمسنا ذلك من ابتسامة الترحيب التي أطلقها الزعيم المضيف بصدقها وقيمتها وهو المعروف عنه الجرأة وعدم المجاملة، والترحيب الكبير بسمو ولي العهد كان برهانا على درجة التقدير والاحترام حتى أن العبارات الترحيبية قد عكست واقع الحال، كما أن لقطات الترحيب بالوفد الأردني المرافق لجلالة الملك من قبل الرئيس الأميركي باسلوب يعكس الندية ويوثق درجات الاحترام لهذا الوطن عبر مسيرته.
بدأ اللقاء بأجندة مغايرة للمألوف، فأعراف الدبلوماسية تبدأ بلقاء الزعماء والوفود باجتماعات مبرمجة بالمحتوى والتوقيت، حتى اللقاءات الثناية بظروف خاصة أحيانا يتبعها لقاءات صحفية للاجابة عن الأسئلة المعدة والمناسبة للحدث مع التركيز على أبرز محتويات اللقاء وثمار المحادثات، لكن الأمر كان مختلفا هذه المرة، فربما كان هناك حنكة وبرمجة ممزوجة بلغة الاحراج، أو امتحان للدبلوماسية بعيدا عن محتوى التحضير للأسئلة المتوقعة والتي ستركز هنا على طبيعة التعامل مع مقترحات الإدارة الأمريكية بترحيل سكان غزة وتوطينهم بدول أخرى وف? مقدمتها الأردن ومصر، حيث تجلت الخبرة والدبلوماسية بفنون الرد التي أعطت أجوبة شافية وواضحة وأزالت اللثام عن كل غموض ليكون الحزم بالرفض القاطع، وربما مثلت بطريقة غير مباشرة المقصود دون الاحراج على أن يصل الرد الرسمي بصيغته الجماعية العربية بعد لقاء القمة العربية المنوي عقدها بنهاية هذا الشهر، تمهيدا لتقديم صيغة عربية موحدة لرؤية المستقبل للمنطقة مع الثوابت الأزلية ببقاء سكان الأرض بمنازلهم؛ هناك خطة اعمار عربية موحدة وأساسها ثوابت الأرض لأصحابها.
أثناء المباحثات، يجب علينا أن نتذكر الصورة الأشهر التي تناقلتها وكالات الأنباء لجلالة الملك وسمو ولي العهد وفيها رسالة معبرة عن الرأي بمنطق الطرح والرافض لفكرة التهجير والتوطين والوطن البديل، رفض دبلوماسي واضح، فتحليل ملامح الصورة والجسد كافية للرد الذي يعتمد على الحنكة والخبرة، لأن تعابير الوجه للملك كانت مريحة وبعيدة كل البعد عن التوتر الأمر الذي يؤكد حكمته وقدرته على معالجة المواقف بالصورة المناسبة بنبرة صوت تتناسب مع المحتوى، إضافة إلى حركة اليدين التي تؤكد سيطرته على الموقف، والتواصل البصري الذي يؤكد ?لاحترام المتبادل، وردود فعله تجاه الرئيس الأمريكي والإنصات دون الموافقة التامة بقمة أدبيات التحادث والتبادل، برهانا لقدرته على إدارة الأزمة في هذه الفترة الحرجة، فنحن لسنا بموقف للتعبير عن رأينا بطريقة استفزازية والمناكفة للطرف الآخر، بل بحرفية تعكس قدرتنا على ايصال رسالتنا ليتقبلها الطرف الآخر بصدر رحب ليأخذ بها؛ هذه االحقيقة التي ترجمت ولخصت إلى درجة كبيرة المحتوى الرئيسي للمباحثات، فنحن ندرك أن الهدف الأساسي للقاء القمة بتوصيل رسالة الرفض القاطع للمبادرة وتوضيح مبررات الرفض الأردني على مستوى القيادة وال?عب دون الدخول بمتاهات العناد والاستفزاز، وأجزم أن الادارة الأمريكية قررت اعادة قراءة المشهد ومقترحاتها لتتناسب مع الردود التي وصلتها وخصوصا الوجاهية منها ممثلة برفض مطلق من جلالة الملك للفكرة والمضمون، فما أعلنه منذ سنوات برفض التهجير والتوطين والتسفير وشطب مصطلح الوطن البديل من قائمة الحلول المقترحة، يعتبر نافذا وسياسة أردنية بأرضية صلبة وعزم لا يتغير، فالشعوب لا ترضى البديل عن أرضها، وثوابت التاريخ شواهد، وربما المقترح الجديد قد أعاد للواجهة ثوابت السياسة الأردنية منذ عقود.
لغة الصراحة التي ترجمت الحوار وإصرار جلالته بالتوضيح للرئيس الأمريكي بأنه يعمل على مصلحة وطنه وشعبه الذي منحه تفويضا مطلقا مهما كانت المبررات والتكاليف هو رسالة أخرى أوصلها جلالة الملك للمضيف فجلالة الملك تمكن من إدارة النقاش بنجاح، وهو وهذا ليس بالأمر السهل، حيث وقف شامخاً في وجه كل محاولات التهجير، ويقيني أن رد الرئيس الأمريكي باعجابة بحنكة جلالة الملك وتفهمه لموقفه، هو رسالة أهم بالاستخلاص بالرغم أنها تتعارض مع مقترحاته، ولكنها الندية بالقول والتصرف والحق، الأمر الذي حدا بالرئيس الأمريكي بخطبته التالية ?لثناء على جلالة الملك وشعبه والتي سوف نتناول فقراتها وأهميتها بمقالتنا القادمة بعون الله وللحديث بقية.