يحاول جلال برجس في روايته» معزوفة اليوم السابع»، والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بالتعاون مع دار الشروق في القاهرة، صياغة رؤية استشرافية للواقع الإنساني مؤكدًا هوية ومرجعيّة إنسانية لا مفرّ منها، وهذا ما جسّده الروائي في شخصيات روايته التي وظّفها جيدًا في تعميق فكرته الإنسانية.
يقدم جلال برجس نفسه سفيرًا للرواية الأردنية في المحافل الإبداعية، فهو صوت روائي عربي حقق عبر مسيرته الروائية الممتدة وجودًا مهمًا في الجسد الروائي العربي بدءًا بروايته «مقصلة الحالم» عام 2013 ومرورًا برواية «أفاعي النار» الفائزة بجائزة كتارا للرواية العربي 2015، ورواية » سيدات الحواس الخمس» التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية 2019، ورواية » دفاتر الورّاق» الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2021، ثم سيرته الروائية» نشيج الدودوك» 2024 التي وصلت للقائمة الفصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب. لذلك فهو يمتلك مشروعًا إبداعيًّا وروحًا حيّة تغلغلت في النص الإبداعي.
جلال برجس أسهم من خلال هذه الرواية من الانطلاق إلى آفاق الرواية الجديدة، ورواية ما بعد الحداثة، إذ يوظف الخيال والفانتازيا في الرواية توظيفًا إبداعيًّا يفسر الواقع، وينتج الأحداث ولم يسبب إبهامًا وغموضًا في القراءة.
يبدو الروائي فزعًا منذ الصفحة الأولى لروايته قلقًا لما سئؤول إليه البشرية في ظل تنامي صراعاتها، حيث تظهر ثنائية الخير والشر، فالرجل الطيب الذي انبثقت من ذريته شخصيات الرواية حرص على تدوين نصائحه في مخطوط، وصلت نسخته بعد وفاته إلى أحد أحفاده ممّن عرفوا بالأمانة والقيم الإنسانية النبيلة، إنّه (باختو) بطل الرواية، وباعث أفكارها في بقية شخوص الرواية.
لقد كبرت القرية وأصبحت مدينة كبيرة إنها مدينة الجد الأول، التي نعثر فيها على أصحاب البشرة السوداء، والبشرة البيضاء، والبشرة التي تميل إلى الصفرة، وفي ذلك دلالة واضحة على عالمية مجتمع الرواية ورمزيته الكونية.
يذهب بنا جلال في روايته إلى مكان افتراضي يتكون من مدينة تضم سبعة أحياء وهي مدينة تتسع للبشرية جمعاء، إذ يشعر كلّ قارئ للرواية أنه يسكن هذه المدينة، إنها فضاء العالم وأحلام ساكنيه في العيش بسلام واستقرار.إذ يشعر القارئ بأنه يعيش مع الروائي لحظة كتابة الرواية؛ لأن مهمة الأدب طرح الأسئلة العميقة وليس تقديم الحلول، إذ يستشرف جلال المستقبل ويدعو قرّاء الرواية لذلك.
جاء الزمان في الرواية مبهمًا كذلك للدلالة على اتّساع هذا الزمان الذي تضيق فيه البشرية بالآلام والمعاناة، حيث الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية، فيبدأ الرواية:» في زمن ما، ضاقت قرية بأحد رجالها، لفرط ما تعاظمت فيها البغضاء والحسد، والضغائن بعد أن كان أهلها متحابين لا يفرق بين معظمهم إلا مشاغلهم اليومية» (الرواية ص9).
لا يشعر القارئ للرواية بثقل الزمان الذي قام الروائي في تذويبه في البناء الروائي؛ فهو ماض بعيد، وحاضر مثقل بالأزمات والقلق، والذعر والشهوات العميقة، ومستقبل غامض، يطرح الروائي أسئلته العميقة التي تبحث عن إجابات تولدها القراءات المتعددة للرواية.
تتنوع شخوص الرواية في نماذج ذات تعددية فكرية، فنجد(باختو) الغجري البسيط، لكنه متذوق للموسيقى عاشق لها، وشخصية (توليب) الفتاة المثقفة الجميلة التي تتابع(باختو) بشغف، تريد اكتشاف سرّ هذه الشخصية التي تخفي مخزونًا إنسانيًّا في أعماقها. لقد وجدت فيه » شكلاً فريدًا للسلام'(الرواية ص41). فضلاً عن ذلك فقد احتفت (توليب) بصورة الجد الأول في معرض الصور الفوتوغرافية الذي أقامته.
لقد أعادت(توليب) الحياة بإنسانيتها إلى وجه(باختو) البائس وأمدته بعزيمة الحياة بل بسرها الحقيقي في مجتمع إنساني محب للخير رافض للحروب، يؤمن بإنسانيته وعمقه الروحي الباعث للحضارة.
وفي هذا السياق يتجلّى حلم باختو وأبناء جنسه، إنّه حلم بسيط، لكنه صعب المنال في ظل مجتمع طبقي، يسلب الحقوق، ويجعل الإنسانية حقًا لفئة دون الأخرى؛ فحلم(باختو) ورفاقه هو دخول مدينة الجد الأول التي يمنعون منها.
في المقابل يوغل جلال برجس في تقديم نماذج بشرية لأحياء المدينة السبعة، وبخاصة حي الغجر، فنجد شاندور وزوجتيه لمياء وبدرية، كذلك نجد لمياء وزوجها نديم، ونوّار محبّ الموسيقا، ومن عصابة الطائر الأسود نجد(جوناثان) بأزمته الإنسانية وتناقضاته الحادة، ولا ننسى زعيم عصابة المخدرات(فايد)، والدكتور أدهم وغيرهم من الشخوص المنتجة لأحداث الرواية.
يورد جلال في بداية الفصل الثاني من الرواية نصًا من مخطوط الجد الأول، يوجز من خلاله طبيعة الصراع الذي تحياه الشخوص:» مَن لا يتأمل نفسه فلن يستطيع أن يثق بخطواته القادمة، هل ستكون صحيحة في مكانها، أمّا أنها ستتعثر. إن تأملت نفسك فستجدك فيها غيورًا حسودًا، محبًّا كريمًا، بخيلاً شرهًا قنوعًا. إنك كلّ هذه النوازع، فإلى أيها ستنحاز ليكتمل معناك، ولتمضي في طريقك غير موهوم بصواب خطواتك، بل تراها على حقيقتها الدامغة؟'(الرواية ص123).
وهنا جعل جلال من الشخوص مفتتحًا سرديًا لروايته بشخصية الرجل الطيب الحكيم الذي هجر القرية المتناحر أهلها برفقة فتاة فقيرة إلى كهف منعزل لتتناسل الشخوص من هذا الكهف منتجة مدينة بأحيائها السبعة، كذلك كانت نهاية الرواية بشخصيتين مركزيتين:(باختو) و(توليب) وقد صعدا قمة الجبل حيث قبر الجد الأول، وفي ذلك مغزى إنساني عميق.
في الحقيقة الإبداع الحقيقي لشخوص الرواية يتجلّى في المخطوط العتيق، والناي والطائر؛ مخطوط عتيق يتضمن ميراث الإنسانية من القيم النبيلة، وناي تنبعث من ثقوبه موسيقى عذبة يشفى كل مَنْ يسمعها من البشر المصابين بالوباء، وطائر أبيض أسطوري بين عينيه نقطة زرقاء مضيئة.
تظهر الموسيقى وبخاصة تلك المنبعثة من ثقوب الناي بوصفها شخصية أخرى مهمة في الرواية، وهي أحد أبطال هذا العمل، وجزء مهم في الرواية، ولا ننسى أن محاكاة الإنسان لأصوات الطبيعة كانت أول ما طرق آذان البشرية من أصوات.
مفعول عجيب لصوت الناي، يصيب كل مَن يسمعه بالدهشة، فعندما عزف (باختو) في الحي السادس بعث السلام والاستقرار، وأوقف الظلم والاستبداد:» فجأة سمعوا المعزوفة ذاتها التي أطلقت في الحي السادس. توقف صدى ضجيج الحي الثالث. تراجع الشرطة عن نوّار وتوليب، وارتخى الآخرون، فسقطت أسلحتهم من أيديهم.اكتست وجوههم بوهج البراءة والوداعة والنور، ورأوا طيورًا بيضاء بين عيونها نقاط زرقاء تفرّ من صدورهم نحو أفق صافٍ مشوب بالزرقة تمامًا مثلما رأى سكان الحي الثالث الذين كانوا ساهمين بالفراغ المشوب بالزرقة وبتلك الطيور التي تحلق نحو مكان بعيد يخلو من الوجع'(الرواية ص 228).
تبقى رواية اليوم السابع لجلال برجس ذات عمق فكري وثراء فني باعث على الأسئلة القلقة المقلقة بطريقة خيالية مغايرة للمألوف، وتتضمن رسائل عميقة، ومضمونًا فلسفيًّا قابعًا في أعماقها.