كتاب

التّكديس والتّفويض والتّقويض

في الإدارة، على اختلاف مستوياتها، يُميَّز بين ثلاثة أنماط من المسؤول، أو «القيادي» بمعنى أدق.

الأول، نمطٌ مذموم، يتجسّد فيمن يحتكر الصلاحيات. والثاني، نمطٌ محمود، يُمثّله من يُفوِّضها. أما الثالث، نمطٌ كارثي، فيُقصد به من يُقوِّض الصلاحيات.

احتكار الصلاحيات غير صحيّ، لأن الأصل أن يُؤمن من يدير أو يرأس مؤسسة بأن الإدارة الفاعلة تقوم على عمل الفريق، وأن أعضاء الفريق يجب أن يُعطوا الصلاحيات اللازمة حتى تتمكّن المؤسسة من تحقيق أهدافها بسرعة وكفاءة.

تكديس الصلاحيات بيد شخص يُعيق العمل ويبطئ الإنجاز. بَيْدَ أن الأسوأ من ذلك أن العديد من القرارات الفردية، والتي تؤخذ دون مشورة جادّة، قد تكون إما قاصرة أو خاطئة.

ويلجأ إلى هذا النمط من الإدارة الفوقية السلطوية المسؤولُ الذي لا يثق بغيره، أو من يكون اعتداده بنفسه مبالغاً فيه، أو من يجهل قواعد الإدارة أو تعوزه الخبرة، أو من تسيطر عليه العقلية التقليدية.

ومن مساوئ هذا النمط هدر طاقات وأفكار كثيرة كان يمكن استثمارها. ومنها أيضاً شيوع الإحباط والتهميش والغربة لدى الموظفين بسبب التفرد من جانب والإقصاء من جانب آخر.

وبالنسبة لتفويض الصلاحيات فهو سمة الإدارة الفاعلة. فالإداري المُفوِّض يحرص على أن يحيط نفسه بفريق من أصحاب الهمم والخبرة والكفاءة ليحملوا معه ويتقاسموا المهام والمسؤوليات، كلّ في مجال تميزه. وإن كانت مؤسسته تخلو من العدد الكافي منهم، يعمل على تهيئة ذلك من خلال التدريب والتطوير والتأهيل. فمعظم الكوادر قابلة للتّرقّي والسمو في الأداء إذا ما أُعطوا الثقة ووُفرّت لهم فرص التعلم والنمو.

القاعدة الذهبية هنا أن رأيين أفضل من رأي، وثلاثة أفضل من اثنين، وهكذا. فالتفكير الجمعي، والذي يسميه البعض رأس المال الذهني، هو العامل الذي يقف وراء نجاح المؤسسات.

وعندما تُفوَّض الصلاحيات يكون الأداء أسرع وأدق وأشمل؛ وتكون أجواء المؤسسة أسعد وأبهج، فتتولد روح الريادة والابتكار ويتحقق الإبداع؛ ويكون الشعور بالإنجاز مُلكاً للجميع؛ ويتحمل الجميع مسؤولية أي إخفاق ويتعاونون على تجاوزه.

وهذا هو النمط الأصح والأرقى.

أما تقويض الصلاحيات فنعني به قيام المسؤول بإنزال الحمل كاملاً عن كاهله وتحميله للآخرين؛ فيقتصر دوره على البروتوكولات الوظيفية المُفرّغة من المحتوى. فتجده يحوّل حتى المهام التي يتوجب عليه القيام بها إلى غيره؛ وكأنّا به يتخلّى عن المسؤولية.

وهذه سمة المسؤول الذي يسعى للإدارة لغاية في نفسه، معتبراً أن أهم ما فيها الميزات التي يمكن أن يتمتع بها؛ على مبدأ أن المسؤولية تشريف لا تكليف؛ وأن المؤسسة إما مكان للنقاهة أو بقرة حلوب.

والنتيجة الطبيعية لهذا النمط الترهل وتردي الأداء.

ويتم ذلك أحيانا، زوراً وبهتاناً، تحت مبدأ تفويض الصلاحيات. لكن شتّان ما بين التّفويض والتّقويض؛ والتّحلّي بالمسؤولية والتّخلّي عنها. لأن أحد مبادئ تفويض الصلاحيات هو تفويض جزء أو عدد منها، لا تفويضها كلّها. ومن يمارس هذا النمط هو إما الأناني أو الضعيف أو الكسول أو المترهل.

نمط المسؤول المُحتكِر ما زال ممارساً بكثرة؛ والمُفوِّض أمثاله قلّة. أما المُقوِّض فحدّث ولا حرج.

المطلوب تقليص النمط الأول، واستنساخ الثاني، وتصفير الثالث.