كتاب

أول الظلم وآخره!

يبدو أن الكذب أصبح بضاعة عالمية رائجة لدى بعضهم، أفراداً ومؤسسات.

الكذب عند الأفراد معروف. فمن لا يستطيع أن يحقق مبتغاه بالمنافسة الشريفة، يلجأ إلى أقصر الطرق: النفاق والتدليس والكذب.

وأحد أهم الأمثلة التي تجسّد خطورة الافتراء والكذب قصة إياغو في مسرحية «عطيل» لشكسبير، ودوره المدمر لغيره ثم لنفسه.

وهو مذموم في ثقافتنا والتي تستقي قيمها ومبادئها من ديننا الحنيف، حيث يقول عز وجل «ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً'؛ ويقول: «إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون».

بَيْدَ أنّ أمر الكذب، على مستوى الأفراد البسطاء، مكشوف؛ ويبقى ضرره محدوداً. لكنّ ضرره أكبر عندما ينتقل إلى مستويات المؤثرين.

منهم بعض السّاسة الذين امتهنوا الكذب واحترفوه، ليس لشيء، بل لتحقيق مآرب ضيقة ولتنفيذ أجندات شريرة.

ومع الأسف فقد تفاقمت هذه الظاهرة عالمياً، ولا ندري ما حصل بالضبط بحيث أصبح العديد من الساسة، بمن فيهم من ينتمون لأعرق «الديمقراطيات» أو من يدعون أن «ديمقراطياتهم» عريقة، يكذبون أكاذيب كبرى، دون خجل أو وجل.

في زمن ليس ببعيد، كان الكذب ينهي الحياة السياسية لمن يمارسه، وكان يساهم في كشفه وفضحه بعض الإعلاميين المنتمون للمهنة والمتمسكين بالحقيقة.

بيد أننا اليوم نشهد، حتى في أعتى الديمقراطيات، كذباً كبيراً معاكساً لحقائق راسخة، يحصد الساسة الممارسون له الشعبية والأصوات الانتخابية بناء عليه؛ لا بل إننا بِتنا نرى في مراكز أعتى الديمقراطيات مئات من الساسة يصفقون للكذب ويدعمونه ويروجون له ويجيزون الانتهاكات والجرائم التي ينطوي عليها.

ويساعد في الترويج للكذب، وهذا مستوى آخر من مستويات التأثير، المؤسسات الإعلامية المؤثرة في الساحة العالمية، والتي يبدو أن الترويج للكذب أصبح مقبولاً لها، لا بل ربما هدفاً.

والمزعج أن هنالك تحالفاً قد شُكّل بين الساسة الممتهنين للتدليس والكذب والمؤسسات الإعلامية المتبنّية له.

ثلاثة أمور بديهية لا بد من التأكيد عليها:

أولاً، الكذب، على هذا المستوى، يُحدث ضرراً كبيراً، وليس سهلاً التعامل معه. ولقد أكّد إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق»، والذي فنّد فيه تُرّهات المستشرقين وأكاذيبهم حول الشرق، والتي صُوِّرت بأنها حقائق وعلوماً، أنّ كشف الكذب وفضحه وتفكيك معطياته مهم جداً، لكنه لا يعني أنه سيتلاشى بالسرعة المرجوة.

ثانياً، أفضل طريقة للتعامل مع الكذابين ليس الدخول في مهاترات وجدالات معهم، لأن ذلك ما يسعون إليه من باب أنه يُسلّط مزيداً من الضوء عليهم وعلى أكاذيبهم، إضافة إلى تشويش عقول الناس وتمييع القضايا، استناداً إلى مقولة «ما جادلتُ جاهلاً إلا وغلبني»، بل إنّ أفضل طريقة هي تسليط الضوء على الحقائق كما هي على الأرض ونشرها بدقة وصدق وموضوعية.

ثالثاً، إننا في مجتمعنا ما زلنا ننبذ الكذب وننأى بأنفسنا عنه؛ ومن هنا فمن المهم أن يتمسّك ساستنا وإعلاميونا بالحقائق، ولا يحذون حذو من يمارسونه عالمياً، فنحن أمة تؤمن بالحق وتقف في خندقه، والحق هو أحد أسماء الله الحسنى.

وبعد، فلقد صدق من قال: «الظلم مرتعه وخيم»؛ والكذب أول الظلم وآخره. لكن الكذب حبله قصير. ويقول عز وجل، وهو خير القائلين: «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره....»

ما أبلغَ هذه الآية، وما أدقّ وصفها لأجندات الكاذبين وخيبة مآلاتهم.