من مشكاة النُّبوَّة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". رواه البخاريّ.
لهذا الحديث العظيم ألفاظ متعددة، وفيه من معانٍ متعددة، يبيّن لنا طريقا إلى المغفرة من الذنوب، فها هو من صام رمضان، وها هو من قام رمضان يغفر له ما تقدم من ذنبه، وقد يقصّرُ العبد في أول رمضان، فتأتيه الليالي العشر منه، ليجدّ ويجتهد ويسابق إلى الخيرات، فيأتيه هذا الاقتصار والاختصار، والسبق في ميادين الطاعات، أنك أيها العبدُ إذا وفقت لقيام ليلة القدر فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك.
وفي شرح هذا الحديث يقول الإمام ابنُ بطال: " قوله: (إيمانًا) ، يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى، على صيامه وقيامه، وقوله: (احتسابًا) ، يريد بذلك يحتسب الثواب على الله، وينوى بصيامه وجه الله، وهذا الحديث دليل بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب وصدق النيات".
ومع أنّنا لا نعرف أيّ ليلة هي، إلا أنّ من كان لا يقدر على القيام في العشر الأواخر كلّها فليلجأ إلى المفرد منها، وإذا فاتكم فلا يفوتنكم ليلة السابع والعشرين وهي رأي كما أورد ذلك الإمام ابنُ عبدالبرّ المالكيّ عن الصحابيّ الجليل أبيّ بن كعب.
نافذة على المجتمع
مع القرآن نسعد ونحيا
د. نبيل جداية
أستاذ مشارك- كلية الشريعة جامعة الزرقاء الخاصة.
لقد جعل الله الهداية سبيل الموحدين، وجعل القرآن شرعة ومنهاجا للمتقين، ففيه صلاح الدنيا والدين، وهو الذكر الحكيم والصراط المستقيم. ومن أراد أن يحيا سعيدا فعليه بالقرآن، ومن أراد أن يأتي يوم القيامة ومعه شفيع له فليكن مع القرآن وأخلاقه وتعاليمه وليأتمر بأمره ولينزجر عن نهيه.
ومما يلزمنا تبيانه، كيف يكون هذا القرآن هدى للناس وخصوصا مع مواسم الطاعات، وقد وصفه الله تعالى بقوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى(. فجاء الربط القرآني بوصف القرآن هدًى في شهر الصيام، مما يدلّنا على أنّ شهر الصيام شهر هداية للناس.
وأما علاقتنا مع القرآن فهي محور السعادة والهداية، وأول مطاف هذه العلاقة، يرتكز على عدم الهجران لتلاوة القرآن الكريم، وخصوصا في الشهر الكريم، والهاجر للقرآن بتلاوته في خسران وهو يتاجر مع الله تعالى، فليدرك من تلك التجارة ما قد فاته، ضمن ارتباط وثيق مع القرآن الكريم.
وهنا لا بدّ من التأكيد على مراحل المصاحبة للآيات الكريمة، ضمن آداب التلاوة ومستلزمات الفائدة الروحية من القرآن الكريم:
المرتبة الأولى: الاستعاذة عند البدء بالقراءة: فقد أرشدنا القرآن الكريم بقوله تعالى: «فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ».سورة النحل: (98). فالاستعاذة إلتجاء إلى الله، ليقينا من سيطرة الشيطان وحتى لا يدخلننا الملل ونتمكن من بناء العلاقة مع القرآن الكريم بالقراءة والاتباع، وتلك المرتبة الآتية:
المرتبة الثانية: القراءة والاتباع: هي علاقة تنبني مع القرآن الكريم كلما قرأت منه أكثر واتبعته أكثر، فقد قال الله تعالى: «وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا». سورة الإسراء: (106). فهذا هو القرآن، فرقان بين أهل الحقّ وأهل الباطل، فنقرأه ليكون معه علاقة إيمانية مفادها الاتباع، لقوله تعالى: «فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ». - سورة القيامة: (18). وتأتي بعد ذلك علاقة تبني في الإنسان كيانا عظيما، وذلك حينما يحفظ القرآن.
المرتبة الثالثة: علاقة الحفظ من الله تعالى: جاء في ثنايا الآيات الكريمة إرشاد إلى حفظ القرآن الكريم في الصدور، وإشارة واضحة إلى مقام الحفظة، فقال تعالى: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ» . سورة العنكبوت: (49).
وهكذا تتشكل العلاقة مع القرآن الكريم، فتحقق السعادة الأبدية بما فيها من معاني الصبر والاحتساب والأمر بمكارم الأخلاق وتجاوز عثرات الكرام، وصلة الأقارب والأرحام، ونحو ذلك مما يكون في سعادة الفرد والمجتمع.
رسائل إيمانية من المسجد الأقصى المبارك (1/3)
المودة والإخاء في بيت المقدس
الأستاذ الدكتور محمد سليم محمد علي
إمام وخطيب ومدرس في المسجد الأقصى
مِن رحِمِ المعاناة، ومن تحت وطأة الاحتلال الذي يعلن حربَه الظالمة على المسجد الأقصى وعلى المرابطين فيه، الذين يقفون موقفا يطلبون فيه رضا الله تعالى ورضوانه، وها نحن نغدو ونروح إلى المسجد الأقصى في الصلوات الخمس، متنافسين بالذي هو خير: (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ )، حتى مع الاقتحامات اليومية، والاعتداءات على المصلين، نحاول توحيد صفنا ونبذ خلافاتنا، لقوله عزّ وجلّ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا).
ونرسل في شهر مبارك رسائل المودة والإخاء لكافة المسلمين وللمحبين للسلام في العالم، مع أنّ الأوضاع التي يعيشها المسجد الأقصى مأساوية، إلا أننا ننعم بالصلوات في رحاب الأقصى، فتختلط دموع الخشوع مع الدموع على من يحرمون من الوصول إلى ساحات وباحات المسجد الأقصـى، كما أننا نستشعر معاني الإيمان في محرابه، وفي الشهر المبارك نصلّي التراويح ونحن نبتهل إلى الله تعالى أن يجزل لنا ولكم الأجرَ والمثوبة، شاكرين لله ذاكرين، ونزرع الفأل في طريق الناس، ونحاول الابتعاد عن اليأس والشؤم، وها نحن نرى الطيبين في هذا العالم يشتاقون لرؤية الابتسامة على وجوهنا.. فنحن بخير.
وأول ما نبدأ به عبر منبر الأقصى ومنابر الإعلام، رسالتنا إلى أهلنا في الداخل، فقضيتنا لا تتحمل خلافات داخلية، ولا تستوعب الاتقسامات وتداعياتها. فلا تتركوا المسجد الأقصى يخرج من أياديكم، وأنتم الذين شرّفكم الله بخدمة بيت المقدس، ولن تبرأ ذمّة الاحتلال مما يجري في المسجد الأقصى حتى يقلع عما هو عليه من ظلم واستكبار، ويكفّ الاعتداء على المسجد والمصلين فيه، ويتوقف عن التدخل بشؤون المسجد الأقصى، ذلك أنّ المواثيق الدولية تمنعه من كلّ تلك التصرّفات، فالمسجد الأقصـى للمسلمين وحدهم، والوصاية الهاشمية عليه لا بدّ من ديمومتها وتعزيزها دوليًّا.
وننطلق بالرسالة الثانية، وهي للملكة الأردنية الهاشمية قيادة وحكومة وشعبًا، فأنتم على قدر المسؤولية، ودعمكم للشعب الفلسطينيّ لا يقبل المزايدة، كما أننا ننعم في المسجد الأقصى برعاية ملكية تُشكر ولا تُنكر، وبمتابعة حثيثة من وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، في أدقّ تفصيلات احتياجاتنا، فجزاهم الله عنا خير الجزاء. يتبع.
تراثنا.. علم ونور
كتاب رياض الصالحين للإمام النّوويّ
الدكتور/ سلطان محمود الشياب
القراءة بحد ذاتها من الأمور التي لا بد أن يحرص الإنسان عليها، لما فيها من الفوائد العظيمة، خصوصا عندما تكون القراءة متأصلة في النفس البشرية، فمن خلالها نتعرف على تجارب الآخرين، وعلوم الأمم السابقة، وبها يتبوأ الإنسان منزلته في القدرة على الإبداع والابتكار، وهي أداة من أدوات التواصل، ونقل وتحصيل المعرفة، فهي تعلم الصبر والهدوء، صحيح أن القراءة مع تطور التكنولوجيا، أصبحت أقل وأسهل، لكنها غير ممتعة، على العموم الكتاب هو الوحيد الذي يتحملك مهما كانت ظروفك، ونحن هنا لسنا في مجال تعداد فوائد القراءة أو كما قيل المطالعة وهذا له وقت آخر.
ومرّة.. وأنا أفتش في أرفف المكتبة، عن كتاب أقرأه، وقع في نفسي كتاب قديم جديد، عتيق ممتع، يصلح لأغلب الأوقات، أعني: كتاب: رياض الصالحين، فقد أورد فيه المؤلف رحمه الله تعالى، الكثير من أحاديث النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام ويعلق عليها، وهي أحاديث صحيحة في غالبها، وتغطي أغلب شؤون حياة الفرد المسلم من أعمال القلوب ومن آداب معاملات وتزكية النفس، وصوم وصلاة، وزكاة، وصبر وبر الوالدين، وجهاد في سبيل الله.
تقول سيرة الإمام النوويّ العطرة أنه كان زاهدًا في الدنيا قوي الحجة يقول الحق في المسائل ولا يخاف أحدًا تعرض كثيرًا للحسد والوشايات ضد أصحاب القرار فكان لا يخاف في الله لومة لائم، ولا قوة حاكم عارض الظاهر بيبرس في كثير من المسائل فقرر الملك بيبرس أن لا يبقيه في دمشق فتركها وبقي في نوى مسقط رأسه حتى وفاه الأجل، وورد أن له العديد من الكرامات له ولمن حوله وشهد له العديد بذلك.
توفي رحمة الله في رجب من عام 676 بعد أن بلغ من العمر 46 عامًا قضاها في أعمال التقوى وطلب العلم والتأليف.
بعبارة أخرى، الكتاب شامل جامع، يعرض فيه الإمام النوويّ بأسلوب ممتع ورائع من خلال التبويبات العديدة، وأجزم أنه ذو فائدة عظيمة، ومتعة كبيرة، ويحمل في ثناياه إخلاص الإمام النوويّ، وهذا سر انتشاره في أغلب الدول الإسلامية، وأجزم أنه لا يوجد مسجد في أي قطر عربي أو اسلامي، إلا وفيه نسخة منه، وأن علماء الإسلام، ومشايخ الأمة، وخطباء المساجد والوعاظ والدارسين لا بد وأنهم يرجعون إليه ويتعلمون منه، فهو جامع شامل رحم الله المؤلف النووي رحمة واسعة وأسكنه جنات النعيم.
وقد خَدمَ الكتابَ كثير من العلماء شرحًا وتخريجا وتحقيقا، كما اختصره د. محمد الزبن، بطريقة جميلة في كتاب: درّة الفالحين مختصر كتاب رياض الصالحين.
أحكام قيام الليل
لقد منّ اللهُ علينا في هذا الزمان بانتشار كثير من السنن التي كانت مهجورة ردحًا من الزمن، كما في صلاة التراويح، وهنا لا بدّ من الشكر والثناء للقائمين على المساجد من الأئمة والمؤذنين والإداريين وكلّ المعنيين بالمحافظة على مساجدنا، في بلدنا وعموم بلاد العالم.
كما ويلزمنا التنبيه على أمر مهم، وهو: أنّ الإسلامَ دينُ سماحة وعلم وهداية، ولم ولن يكون في الإسلام تشجيع على الاختلاف الذي يؤدي إلى الكراهة، فالاختلاف باب من أبواب الرحمة. وما أعنيه هنا – تحديدا- الإشارة غلى ضرورة نبذ الخلاف بيننا في أمور يسعنا فيها الخلاف، ومنها: عدد ركعات التراويح، فمن صلاها إحدى عشرة ركعة لحديث أم المؤمنين عائشة فخير وبركة وسنة متبعة، ومن زاد على ذلك فلا يسمى مبدعا وهذه كتب الفقه مليئة بالتنبيه على جواز الزيادة ولا حرج، ولن يحرم الأجر فاعلها.
ومما يكثر فيه الخلاف بين بعض طلبة العلم: ما يسمى بالتهجد في رمضان، وهو ما تفعله الأئمة بتعليمات وزارة الأوقاف بالصلاة في العشر الأواخر وغيرها لمن أراد، فيصلي الإمام بالناس في الثلث الأخير من الليل، وذلك من باب التحري لقيام ليلة القدر، وهناك من يعترض بأنه لا زيادة على الإحدى عشرة ركعة، وهنا ننبه إلى ضرورة نبذ الخلاف بيننا، وأنه من صلى ما صلى فلا يعترض على من صلّى ما صلّى، فكلّ نافلة والنافلة مبنية على التوسّع، مع ضرورة أخرى وهي: عدم التبديع والتفسيق – لا قدر الله-، وأن ننتظم حول إرشادات علمائنا وأهل الاختصاص، وأنه لم يتندم من تندم على الرفق، وكم تندم من تندم على العنف والعجلة.
وأخيرا.. من صلى مع الإمام وصلى الوتر، فجائز له التنفل في بيته أو يرجع فيصلي مع الإمام التهجد، على أن لا يصلي الوتر مرة أخرى، ففي الفتوى رقم: (1046)، على موقع دائرة الإفتاء الأردنية: (يجوز لمن صلى الوتر أن يتنفل بعده، والأولى أن يكون الوتر هو آخر صلاة في الليل، فمن غلب على ظنه أنه سوف يستيقظ في الليل للتهجد استحب له تأخير الوتر إلى ما بعد التهجد، ومن خشي أن لا يستيقظ يصلي الوتر قبل النوم).
أ.د. عبدالرحيم الشريف
رئيس قسم أصول الدّين، كلية الشريعة- جامعة الزرقاء
من نور القرآن
قَال اللهُ تَعَالَى في سورة يوسف، وقد لجأ إليه الملك لتأويل رؤيته: { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) }.
في الآيتين الكريمتين معادلة إنسانية رائعة، ففضلا عن سياق القصة، وأنّ الذي كان في السجن مع سيدنا يوسف عليه السلام، ومع ما يجد في نفسه يوسف من ظلم ومعاناة السّجن، إلا أنّ الأمانة العلمية تستلزم ممن أراد الإجابة على سؤال أن يتلطف غاية اللطف مع المستفتي فيقدم له الحلول، ولا يقتصر عمله على تشخيص المشكلة والوقوف عند تكييفها الفقهي واستنباط حكمها، فالمفتي بمثابة الطبيب فهو يشخصُ المرض وأسبابَه، ثم يقترح العلاج المناسب، ويدل على سبل الوقاية منه في المستقبل، تماما كما فعل سيدنا يوسف، فقد أوّل الرؤيا، وقدّم حلولا للوقاية من كارثة تشير الرؤيا لحدوثها.
وأصحاب الفضيلة ممن يمارسون الفتوى من المفتين والعلماء يراعون مثل هذه الأمور، إلا أنّ الخوف ممن يتصدرون الفتوى من طلبة العلم، أو قل: أشباه أهل العلم، فقد يقنطون الناس ويلجئونهم إلى الحيرة، حينما يفتون فتوى والمستفتي بحاجة إلى تمام النصح والإفادة، وهنا يشير الإمام ابن القيم: "مِن فِقه المفتي ونصحِهِ: إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه - وكانت حاجته تدعوه إليه - أن يدلَّه على ما هو عوض له منه، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح، وهذا لا يتأتَّى إلَّا من عالِمٍ ناصح مشفقٍ قد تاجرَ الله وعامَلَه بعِلمه".