ثمة تجارب عديدة في العالم مارست العمل الفدائي «الكفاح المسلح»، بهدف التحرر والاستقلال عن الاستعمار، لكنني في هذا المقال أعني العمل الفدائي الفلسطيني حصرا، في ضوء «المحرقة» وحرب الإبادة التي ترتكبها دولة الاحتلال الصهيوني ضد شعب قطاع غزة، في وحشية قل نظيرها باستخدام أحدث الأسلحة الأميركية.
شكل انطلاق حركة فتح في يناير/ كانون الثاني عام 1965، ولادة حقيقية لحركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة بعد نكبة 1948، وسبقها بنحو ستة أشهر ولادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي شكلت إطارا ضم مختلف الفصائل الفلسطينية المسلحة التي تشكلت تباعا، وصار لها مرجعيات فكرية وأيدولوجية وسياسية متعددة، ونتيجة تعدد المرجعيات أصبحت المنظمة ساحة للسياسات العربية المتضاربة! بعد هزيمة حزيران عام 1967 توسع العمل الفدائي وكانت الأراضي الأردنية ساحته الرئيسية، وانتشرت قواعد الفدائيين في الأغوار وعديد المدن، وفتحت المنظمات الفدائية أبواب الانتساب إليها لمن يرغب من العرب وانتسب لها الكثير من الأردنيين، لكن الصورة تغيرت في وقت لاحق، وطغى على العمل الفدائي البعد الاستعراضي، بل وصل إلى حد التدخل في الأمور الاجتماعية والتباهي بإطلاق النار في الأعراس، أما تنفيذ العمليات الفدائية فقد تعددت أشكالها، بين مهاجمة مواقع عسكرية إسرائيلية عبر نهر ثم الانسحاب إلى القواعد الخلفية في الضفة الشرقية، كما لجأت بعض الفصائل إلى خطف طائرات مدنية واحتجاز ركابها رهائن، أو مهاجمة مواقع في دول أجنبية كما حدث عندما هاجم مسلحون ينتمون إلى أحدى الفصائل دورة الألعاب الأولومبية في ميونخ بألمانيا بتاريخ 5 أيلول عام 1972. وبعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 وحصار بيروت، واجهت منظمة التحرير تحديا استراتيجيا تمثل بترحيل عناصر وكواردر المنظمة، من لبنان إلى تونس تحت الحماية الدولية.
وفي عام 1986 ظهر فصيل جديد هو حركة «حماس»، ولها جناح عسكري اسمه «كتائب عز الدين القسام»، وفي عام 1993 حدثت مفاجأة مدوية كانت بمثابة زلزال سياسي تمثلت بتوقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات! ومع انخراط منظمة التحرير في نهج التسوية، بدأت حركة حماس تكتسب شعبية متزايدة، نظرا لتبنتها نهج المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وكان دور حماس يتصاعد مع تزايد المؤشرات على فشل اتفاق اوسلو، وبسبب قوة المقاومة في قطاع غزة انسحبت قوات الاحتلال منه عام 2005، عندما كان شارون رئيسا لحكومة الاحتلال. وفي انتخابات عام 2006 التشريعية فازت «حماس» فيها وشكلت حكومة برئاسة اسماعيل هنية، ثم وقع الانقسام بين حركتي حماس وفتح، وسيطرت حماس على قطاع غزة وتولت ادارته عام 2007، وبعد ذلك فرضت إسرائيل حصارا شاملا على غزة، ومنذ انسحابها نفذت إسرائيل عمليات عسكرية بعضها تحول إلى حروب استمرت أسابيع وخلفت آلاف الشهداء، وأهم هذه الحروب التي بدأتها حماس في 7 اكتوبر الماضي واسمتها «طوفان الأقصى»، وشملت هجوما بريا وبحريا وجويا وتسللا للمقاومين إلى عدة مستوطنات في غلاف غزة، وكانت هذه العملية بمثابة زلزال سياسي وأمني كسر هيبة جيش الاحتلال، الذي رد بإعلان حرب انتقامية تستهدف المدنيين ومساكنهم والمرافق المدنية والمستشفيات والمدارس والجامعات.
ولمن يتساءلون: كيف لحركة مقاومة بأسلحة بسيطة مقارنة بترسانة هائلة يمتلكها جيش الاحتلال من أحدث الأسلحة، أن تصمد وتقاتل في هذه الحرب الوحشية؟ والجواب ببساطة، أن النمط الفدائي تغير عما كانت تتبعه الفصائل الفلسطينية في العقود الماضية، وما يميز كتائب «القسام» التسلح بالعقيدة «الجهادية» والروح الاستشهادية، التي تتفوق على العدو في المواجهة والقتال الميداني من «مسافة صفر»، بينما هو يستخدم الطائرات المقاتلة والمدفعية الثقيلة والسفن الحربية ويستهدف المدنيين العزل، فضلا عن الإعداد والتخطيط الجيد، وممارسة العمل الفدائي من تحت الأرض، حيث انشأت «القسام» شبكة أنفاق تحت أرض قطاع غزة تمتد لمئات الكيلومترات، والتي تحتوي أيضا على ورش لصناعة الأسلحة. Theban100@gmail.com