لستُ مستثمراً أو متخصصاً في مجال التجارة والمال والأعمال أو عالِمَ اقتصاد. بَيْدَ أنّني مستهلكٌ ومراقبٌ للمشهد؛ وعندي قناعة أنّنا لا نقلّ عن غيرنا من الشعوب المُنتجة والمُصدّرة، لما نملكُ من موارد، وبالذات الموارد البشرية.
اتّضح لنا الآن أكثر من ذي قبل، ونحن نعيش الظروف المأساوية في غزة والضفة الغربية نتيجة العدوان الإسرائيلي الهمجي، أنّ كل ما يصبّ في دعم الكيان الغاشم يجب أن تُجفّف منابعه.
ومن أهم مصادر القوة التي يتمتع بها الكيان الدعم اللامحدود الذي يتلقاه ليس فقط من غالبية قيادات الغرب ومؤسساته الرسمية، والتي بسبب عنصريتها وعقيدتها الرأسمالية الاستعمارية غير الأخلاقية تنحاز دوماً لدولة الاحتلال والعدوان، بل كذلك من معظم الشركات الغربية المنتجة للعديد من المنتوجات والبضائع التي غزت أسواقنا غزواً كاسحاً.
لا داعي لذكر المنتوجات والبضائع هذه بالتفصيل، فهي معروفة؛ وتشمل المشروبات والمأكولات والمواد الغذائية بأنواعها، إضافة إلى الأحذية والملابس، والأجهزة الكهربائية والسيارات وقِطعها، وحتى الأثاث والبلاط والرخام. والقائمة تطول.
والمُضحك المبكي في الأمر، أنّنا عبر أكثر من أربعة عقود، أصبح اعتمادنا عليها اعتماداً شبه كليّ؛ لدرجة أننا تخلينا عن إنتاج الكثير مما كنّا نُنتج واتّجهنا صوب الاستيراد واستهلاك ما ينتجه الغير.
قبل وقت ليس ببعيد، كانت لدينا نسبة لا بأس بها من الاعتماد على الذات في انتاج معظم ما نستهلك. فقد كانت، على سبيل المثال، أحذيتنا تُفصّل وملابسنا تُفصّل وأثاثنا يُفصّل؛ وكان أكلنا في بيوتنا ومطاعمنا.
أما اليوم فالغلبة للمنتج الأجنبي.
والخطير في الأمر ثلاثة أبعاد على الأقل. أوّلها الانطباع السائد أنّ المنتج الأجنبي هو الأفضل دون منازع، وثانيها أنّ ارتياحنا واستسهالنا للاستيراد عطّلَ عندنا القدرة على التصنيع والابتكار والإبداع؛ وثالثها، وربما الأخطر، أن مبدأ اعتمادنا على ذاتنا قُتِل.
لا أزال أذكر ما قاله لي صديق أمريكي كان رئيساً لإحدى المؤسسات البحثية في مدينة شيكاغو عام 1987 عندما أقمتُ في المؤسسة صيفاً ودعاني للغداء وطلبنا معه أحد المشروبات الغازية المعروفة، فسألني: ماذا تشربون في بلدكم على الغداء؟ أجبته: نشرب هذا. قال وقد ارتسمت علامات الدهشة على وجهه: «معقول؟ هذا مشروب غازي معظمه ماء وسكر ولا يحتاج لأية عبقرية لصناعته؛ أليس لديكم مشروبات غازية من صناعتكم؟!!'
قلت له، «والله معك حق.'
النقطة وضحت الآن، وحتى لا نُطيل نقول، آن الأوان أن نتحوّل من عقلية المستهلك إلى عقلية المُنتج، للسبب المباشر المتمثل في أنّ العديد من البضائع والمنتوجات التي نستهلكها والتي تأتينا من الشركات الغربية الكبرى وندفع عملة صعبة مقابلها تذهب لشركات تدعم الكيان؛ وهذا يعني أننا بطريقة غير مباشرة نساهم في الدعم؛ إضافة إلى السبب المباشر الآخر، والذي قد لا يبدو كذلك، والمتمثل في أنّ اعتمادنا المُبالغ فيه على المستوردات الأجنبية يأتي على حساب اعتمادنا على أنفسنا. وهذا هو الدّمار بعينه.
لسنا ضد الاستيراد الذي يخدمنا؛ فكل الدّول تستورد. لكن مهم أن نعرف ماذا نستورد ومن أين ولماذا؟ والمهم أن لا يكون ذلك على حساب ما يُمكن أن نُنتجه نحن.
لدينا الآن فرصة استثمارية تاريخية؛ فهل نستغلّها؟!!