رجالات الأردنّ وشخصيّاته ركائز مهمّة للوطن، وحين يغيبون لمرضٍ أو موت، نشعر بفداحة الخسارة، ونتألّم لأنّ بإمكانهم أن يعطوا المزيد، وأن يرسّخوا في أبنائهم من الشباب الثقة بقدرة الوطن على مواجهة التحديات. اليوم يودّعنا رئيس الوزراء الأسبق الدكتور معروف البخيت، طاويًا معه أوراقه البحثيّة وقراءاته الاستراتيجيّة وأرشيفه الغنيّ الذي قدّم للمنصات أغلبه، وكنّا نطمع لو امتدّ به الأجل، فنحن مقبلون على دهرٍ متقلّب وخرائط تتشكّل وغيوم متلبّدة، وليس سوى الرعيل الأوّل ممن خدموا في مدرسة الهاشميين وكانت لهم قناعاتهم التي كاشفوا بها وامتحنها الظرف ومواضعات الدول والمواقف والاصطفافات، من يعين على فهم الاستراتيجيّات وتعقيدات المسائل العالقة والأوضاع الإقليميّة والأزمات الناشئة.
كان لشخصيّة معروف البخيت رحمه الله، إجماع لدى كلّ من استمع له أو ناقشه أو تداول معه حديثًا يتنافذ على أحاديث، بأنّه رجل استراتيجي، عميق الرؤية، يسعى دائمًا إلى بثّ الروح المعنويّة بقدرة هذا البلد على مواجهة تحدياته وظروفه، التي جاوزها منذ زمن وكان نموذجًا فيها، حتى لقد أصبح التاريخ الأردني سرديّةً رائعةً تبعث على التفاؤل والقوّة والعزم في السير الواثق وسط أجواء يلفّها الدخان، وحرائق تنتظر من ينزع فتيلها لتشتعل، بل لقد اشتعلت فعلًا، والأمثلة عليها كثيرة، مما نرى ونعيش ونحاذر ونترقّب.
على روحك السلام أيّها الأردنيّ الملامح، الطيّب الوجه واليد واللسان، العميق الفكر والرؤية، الضّاج بالأسئلة الكبرى، الذي ينبلج محيّاه دائمًا عن العديد من الحلول لكلّ الظروف والأحايين،.. على روحك نقرأ السلام، ونقول إنّ دولتنا وهي تدخل مئويتها الثانية بكلّ العزم والاقتدار، لتفتقدك، وقد كنت بالأمس أحد فرسانها المهيبين، بل أحد أعمدتها المنافحين عنها وعن نشأتها: بلدًا عروبيًّا تأسس على الوحدة والوفاء لقضايا العرب، وفي مقدّمتها قضيّة فلسطين.
قاتل الله المرض، وسامح الله الموت، فقد خسرتك المنابر وخلت ساحات الفكر من عطاء رجلٍ صبر على ما أصابه، فلقي وجه ربّه وقدّ أدّى واجبه الوطنيّ وأنجز ما حمّله الوطن والقائد من مسؤوليّات جسام في ظروف حرجة وحسّاسة، حيث أملُ قائد البلاد بولوج مرحلة جديدة يفرح بها الأردنيّون وتحيا بها الهمم ونتجاوز خلالها المعضلات.
يعود الدكتور معروف البخيت اليوم إلى مسقط رأسه في ماحص، التي تنتابها أحزان كلّ الوطن، وقد خدم وطنه رئيسًا لحكومتين (2005- 2007)، و(2011)، ونهل من العلم والفكر مواظبًا على خدمة وطنه ومليكه، لتكون المسافة ما بين يوم مولده عام 1947 واليوم، معبّدةً بالإنجاز والثقة والصبر على التحديات وزعزعة ما استطاع منها نحو مستقبلٍ أكثر إشراقًا، وهكذا هم رجال الوطن النابهون والحكماء، يستمرون في عطائهم فلا يتقاعدون.
حصل البخيت على بكالوريوس الإدارة العامة والعلوم السياسيّة من الجامعة الأردنيّة، والماجستير في التخصص ذاته من جامعة كاليفورنيا، ودكتوراة الدراسات الاستراتيجيّة من جامعة لندن. كما شغل سفيرًا في أكثر من بلد، وكان له حضوره عضوًا ومقررًا للجنة التوجيهيّة العليا والمنسّق العام لعملية السلام في الشرق الأوسط عام 1999، التحق بالقوات المسلحة الأردنيّة عام 1964 وتقاعد برتبة لواء عام 1999. حضر العديد من الدورات في كليّة القيادة والأركان ومثّل الأردن في مباحثات الحدّ من التسلّح والأمن الإقليمي من ضمن مجموعات العمل المتعددة التي انطلقت من مدريد. خدم في العديد من المناصب، منها نائب رئيس جامعة مؤتة للشؤون العسكريّة، ومدير التطوير والدراسات، ومدير شؤون الأفراد في القيادة العامة للقوات المسلحة الأردنيّة، ومدير مكتب جلالة الملك عبدالله الثاني، ومدير الأمن الوطني، وعضو مجلس الأعيان الثاني والعشرين، والثالث والعشرين، والرابع والعشرين، والسادس والعشرين، والسابع والعشرين. يحمل الدكتور البخيت ستة عشر وسامًا من مختلف الدرجات، منها وسامٌ أجنبي، رحمه الله وأسبغ عليه الرحمة والرضوان، وإنّا لله وإنا إليه راجعون.