كنت أعرف أني سأكتب يوماً عن غيفارا، ربما عن الاسطورة التي داعبت خيالي يوماً، ربما عن المناضل، ولكني أكتب اليوم عن فتى في الرابعة والعشرين يمتطي دراجته سائحاً في أرجاء أميركا اللاتينية، فأرنستو تشي غيفارا كتب وهو طالب في كلية الطب كتاباً قيماً بعنوان «يوميات دراجة نارية» وقام بترجمته مؤخراً صلاح صلاح ضمن سلسلة «رحلات عالمية» التي اعتمدت عدداً من الرحلات القديمة والتي تدخل في باب التراث الإنساني العربي، والشرقي على وجه التحديد، ولكنها بهذا النص تطير إلى أميركا اللاتينية لتتناول عملاً معاصراً نسبياً، وعلى درجة عالية من الأهمية.
يكتسب العمل أهميته من كون الكاتب هو المناضل الذي اقترب من الأسطورة، خاصة مع رحيله المبكر وحضوره الفكري والإنساني، وكون هذا العمل يشرح بدقة غير متعمدة العوامل التي جعلت من هذا الفتى المغامر مناضلاً هاماً فيما بعد، ولا يتعلق الأمر بالمعلومات التي تشرح أوضاع القارة الثائرة، التي امتزج فيها دم الهنود الحمر والاسبان، حسب، ولكن العمل فضلاً عن ذلك رصد أمين للشخصية اللاتينية، كما هو وصف لأوضاع بائسة تمور في أعماق المجتمع لتصنع مستقبله فيما بعد، عدا عن الوصف الجغرافي والجمالي الذي لا يمكن إلا أن نقر إزاءه أننا نتعامل مع كاتب فنان.
أكثر من ذلك، فإن الفتى المغامر وهو يتأمل الناس والأحوال ويشرح العادات والتقاليد، يقترب اقتراباً حثيثاً من أدوات الروائي، مما يجعلني أظن أن الفتى الذي شغله النضال حتى حقق مع مجموعته تميز كوبا، والذي عين وزيراً، وكان توقيعه فريداً ومميزاً فوق عملة البلاد، والذي آمن بوحدة أميركا اللاتينية حتى أنه ترك المكاتب مجدداً لينخرط في خنادق الثوار في بوليفيا، ويقضي نحبه هناك، لو لم يمر بكل هذه الظروف لكان روائياً حقيقياً، نلمح تلك الخاصية عندما يصف وعندما يتأمل الواقع الجواني للإنسان والمكان، وعندما يحلل، وعلى صغر عمره آنذاك، يقدم تحليلاً فكرياً وإنسانياً عميقاً، كما يتتبع مآسي البشر التي قادتهم إلى الثورة.
ليست هذه الرحلة مجرد مذكرات يومية لغرّ مغامر، ولكنها دليل على تفتح لتجربة ناضجة، نرى من خلالها غيفارا، طالب الطب يتفحص الأشياء كما يحاكم نفسه ويقلب أفكاره، ونشعر ذات الشعور العبقري الذي راود ابنته عندما قرأت يومياته تلك، نشعر أننا نركب خلفه على تلك الدراجة الجبارة، وهي تطوي جغرافيا المكان مقدمة فحصاً دقيقاً للإنسان والظروف، وليس أكثر حزناً بعد أن رحل الفتى، أن نقرأ كلمات ابنته وهي تقول إن هذه الأماكن التي وردت في يوميات والدها ساء حالها.
غيفارا الحلم والنموذج الذي لمع شهاباً في منتصف القرن الماضي وهو بعد في أول الدرب يجهل دوره في مستقبل القارة، يقول : «علمت أنه حين تشق الروح الهادية العظيمة الإنسانية إلى شطرين متصارعين، سأكون إلى جانب الشعب، أعلم هذا، أراه مطبوعاً في سماء الليل، أرى نفسي قرباناً في الثورة الحقيقية».
وقد كان.