جنوبا.. يتكثف الحلم بؤرة نور ومرجل نار، إلى أن يتحقق عنفوانا عربيا يتبلور مرة حضارة نبطية، ومرة أخرى خلافة عباسية في الحميمة...
جنوبا.. وما إن يصير الراحل إليه على مرمى ستين كيلو مترا من العقبة، حتى يرى الحميمة الجديدة يمين الخط الصحراوي، بينما تحتجب على مسافة اثني عشر كيلو مترا غربها الحميمة العباسية.
أيها الراحل إلى هناك امشي وئيدا.. أطل التأمل..
فأمامك قرية سرّ خلودها أنها نسجت الحلم العربي مرتين: الأولى كان نهوضا حضاريا على يد مؤسسها الملك النبطي الحارث الثالث في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، والثاني كان ثوريا تصحيحيا في النصف الأول من القرن الثامن ميلادي حين سكنها بنو العباس وانطلق نقباؤهم ودعاتهم منها إلى الكوفة وخراسان وكل الحواضر مبشرين بلحظة جديدة من عمر الدولة العربية الإسلامية حتى تحقق الطموح بتأسيس الخلافة العباسية في عام 750م.
الحميمة.. تغلفها المهابة، وتسكنها الذاكرة التي تدون في سجلات دروبها أن علي بن عبد الله بن العباس، حين واطنها بعيدا عن بني أمية بنى فيها مسجدا وقصرا، وزرع خمسمائة شجرة كان يصلي كل يوم ركعتين عند كل واحدة منها، حتى إنه دفن تحت إحداها صندوق وثائق الدعوة، بل وتفيأ ظلالها ثلاثة من الخلفاء العباسيين المولودين في الحميمة هم أبو العباس، وأبو جعفر المنصور، والمهدي بن المنصور.
حوراء.. أوارا
يشي تاريخ القرية بأن اسمها كان زمن الأنباط (حوراء) والتي تعني (بيضاء) في اللغة النبطية والعربية وكانت تسمية يعرف بها اللون الأبيض عند الآراميين.
وقد أخذت هذه التسمية من لون الصخور التي تكثر هناك، وقد ذكرها المؤرخ البيزنطي أورانيوس باسم (أوارا) وهو تحريف لاسم حوراء، ويمر عليها ياقوت الحموي في معجم البلدان حيث يذكرها «بلفظ تصغير الحمة، وهي «بلد من أرض الشراة ومن أعمال عمان في أطراف الشام كان منزل بني العباس».
حديث السِيَر، والمؤرخين
عندما يتحدث اليعقوبي في «كتاب البلدان» عن جند دمشق يقول: «والشراة، ومدينتها أذرح، وأهلها موالي بني هاشم وبها الحميمة منازل علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وولده».
أما البكري في «المسالك والممالك» فيذكر الحميمة بأنها «على لفظ تصغير حَمّة: موضع بالشام»، ويضيف في مكان آخر من الكتاب قائلا «ولما انتقل علي بن عبد الله بن عباس إلى الشام، اعتزل مدينة أذرح ونزل الحميمة، وبنى بها قصراً».
كما وردت في كتب كثير من المؤرخين كالحازمي في كتاب الأماكن، وأبو الفداء في «تقويم البلدان»، وصفي الدين البغدادي في «مراصد الإطلاع»، والحميري في «الروض المعطار في خبر الأقطار»، وحين ذكرها الهروي في «الإشارات لمعرفة الزيارات»، قال إنها «قرية بها قبر محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أبي الإمام المنصور رضي الله عنهم».
وهناك كثير من المصادر الإسلامية تذكر الحميمة في معرض سردها لأحداث النصف الأول من القرن الثامن الميلادي، حين سكنها بنوا العباس، وقد دونت تفاصيل قصة تشكلها في العديد من تلك المصادر ككتاب «أخبار الدولة العباسية»، و'أنساب الأشراف» للبلاذري، و'تاريخ الرسل والملوك» للطبري، و'تاريخ مدينة دمشق» لابن عسكر.
ملتقى الطرق
للدروب ذاكرة أيضا، وهي حاملة إرث المقيمين والمشاة فيها، وللحميمة تماس مباشر مع سيرة الطرق القديمة، مثلما هي الآن مجاورة للطرق الحديثة، إذ إنها كانت في زمن الحضارة النبطية من المحطات التجارية البارزة لاستقبال قوافل التجارة القادمة من الجزيرة العربية والذاهبة شمالا إلى الشام و مصر، وقد قام الأنباط بتزويد البلدة بالمياه عبر قنوات حجرية من الينابيع المجاورة حيث استخدمت المياه للشرب وري المزروعات.
كما أن كتب التاريخ تذكر طريق «تراجان» الجديدة الذي شيد ليصل أيلة (العقبة) ببصرى الشام في فترة الرومان، مارا بالقرب من «اوارا» كنقطة استراحة ومحطة للبريد وجعلوا فيها حامية لهم.
وتضيف الوثائق بأن مرسوم بئر السبع ذكر أنه عندما تم تنظيم المقاطعات الرومانية في بداية القرن الرابع الميلادي قدّر محافظ مقاطعة فلسطين الثالثة مخصصات حوراء كثاني أعلى المقادير في شرق الأردن بعد أذرح.
أما العباسيون فقد استفادوا من موقع الحميمة على طريق الحج والتجارة من الشام للاجتماع بالدعاة الذين كانوا يتصلون بهم ويمررون المعلومات لهم.
الحميمة.. خَيار أخير
إن الحميمة التي ورد ذكرها في شعر محمد بن إبراهيم العثري قائلا عنها:
(مَرْتعي من بلاد نخلة في الصيف بأكناف سُولة والزَّيْمَهْ
وإذا ما نجعتُ واديَ مَرٍّ لربيع وَرَدْتُ ماء الحُمَيْمَهْ
رُبَّ ليلٍ سريت يمطرنا المَا وَرْدُ, والندُّ فيه يعقد غَيمهْ
بين شُمّ الأُنوف زَرَّتْ عليهم جالبات السرور أطناب خَيْمَهْ)
هي ذات القرية التي أبكت أبو جعفر المنصور عندما تم نسف تمثاله وسط بغداد، بعد احتلالها على يد الأمريكان، وقد استحضر كل تلك الآلام الشاعر حميد سعيد مستذكرا في نهاية مرثيته بلدة الحميمة، مهد الدعوة العباسية موقع ميلاد باني بغداد:
(مَنْ هؤلاء؟!
يَقومُ عبد الله..
أبوابٌ ثمانية.. سيفتحهَا لنا
للماء والشعراءِ..
للفقهاءِ والخلعاء..
ها أنذا أراهُ.. معمّماً بالريح.. يَختارُ الحُميمة مَرَة أخرى..
وليسَ سوى الحُميمةِ من طريْق)
الجديدة، والعباسية..
أيها العائد من الحميمة لا تنسى من ورثوا الحياة بها..
تذكر أن الأنباط والرومان والعباسيين مضوا، غير أن الحياة مستمرة، والذين شيدوا الحميمة الجديدة على حد الخط الصحراوي يلوحون لك بأيديهم، كأنهم يقولون لك «حي هلا».
أدخل إليهم، راقب طيبة ترحابهم، واسأل أهل القرية عن الذي سعى بها من مضاربهم قرب الحميمة العباسية إلى مكانهم حد الطريق في الحميمة الجديدة..
يقول تاريخهم هناك أنهم يعودون جميعا من عشائر البدول، كانوا يقيمون في مضاربهم قرب الحميمة العباسية مع مواشيهم هناك.
قرية حول مدرسة
يتحدث عطا الله الموسه (أبو محمد)، أحد وجهاء القرية، متذكرا أنهم كانوا يقيمون في الِحْميمَة (بكسر اللام وتسكين الحاء) منذ فترة طويلة، ويشير بيده إلى الغرب حيث الحميمة العباسية، قائلا: 'كنا في بيوت الشعر نعيش هناك، ونخزن بالمباني القديمة التبن والشعير ونبيت فيها الحلال هذا قبل أن ننتقل إلى القرية الجديدة'.
ويسرد تفاصيل قصة تكوين الحميمة الجديدة التي كانت تداعياتها تعود إلى عام 1960م حين تم بناء المدرسة في الحميمة العباسية، وما زالت غرفها الاثنتين موجودة هناك، وهي من أقدم مدارس البادية الجنوبية؛ «وصارو يجوها الاساتذه، ويعلمو فيها»، لكن هؤلاء المعلمين لم يكونوا يبقوا فيها، «صاروا يهربو منها»، وسبب ذلك أن القرية بعيدة عن خطوط المواصلات، حيث كانوا «يمشوا إليها مسافة من الخط الصحراوي حتى يصلوا المدرسة»، إضافة إلى قلة الخدمات في القرية، وصعوبة الحصول عليها لبعد المسافة، إلا أنه رغم هذه الصعوبات «بقينا ندرس فيها حت? عام 1970م»، الوقت الذي أمر فيه الملك حسين رحمه الله، ببناء مدرسة لنا في موقع القرية الجديدة الآن، وبعدها صرنا نتواطن حول القرية، «صار الناس بدهم يسكنو بجنب المدرسة عشان ولادهم، ولما عمّرو الناس بعدها جت الكهربا والميه والمركز الصحي»، وتشكلت قرية الحميمة الجديدة.
بداية العمار
يقول أبو محمد أن بداية التعمير كان في الجهة الثانية من الشارع (الجهة الشرقية)، وكان أول بيت «انبنى كان بيت علي سليمان الموسه، وثاني واحد كان للحج سالم الموسه، وبعدين كانت أرض حميمه الجديده في البداية لعيال مطلق (الموسه)، وعيال موسى (الحساسين)».
ويضيف أن الحكومة قسمت عليهم الأرض عندما استقروا هنا، «قسموها لحوالي ثلاثين واحداً، بس لما أجا الشارع، وجددوه، قسم القرية قسمين واخذوا من أكثر من مئة وعشرين مترا عطول الشارع المحاذي للقرية».
وبالنسبة للقرية القديمة فقد حمتها الآثار، هكذا يقول أبو محمد الموسه، و'احنا صرنا هناك مش عارفين النا ارض والا ما النا لأنها محمية الآن للآثار، يعني هي مسجله باسمنا ومش قادرين نتصرف بيها».
حين يعود أبو محمد إلى الذاكرة القديمة للناس، يمر على ما سمعه حول معيشتهم السابقة، وكيف كانوا يعتمدون على تربية الجمال والأغنام، وأنهم كانوا ينقلون البضائع بالجمال من العقبة إلى معان، وجزء منهم كانوا يتاجروا بالحلال إلى فلسطين حيث أسواق الحلال هناك، فكانوا من الحميمة «يسيّرو سوايق يعني ميتين ثلثمية راس غنم تجميع، ويروحو بيها لفلسطين، ولبير السبع ولغزه، وكانوا يبيعوها هناك».
يتوقف قليلا، ويكمل «كانت من قديم الزمان ممر للقوافل، واسمها كان «حورا»، وكان يستريح فيها اللي يجي من فلسطين، وبعدو فيه رصفيات في القرية القديمة لطريق الكروسه، طريق الحج السليماني اللي كان يمر بالحميمه».
أصحاب القنو
يتذكر أهل القرية أن لهم حفاير في العقبة، هذا قبل أن يكون تطويب الأراضي الحديث، وقبل أن تزدهر كما هي في الفترة المتأخرة، يتحدثون بأنه كان من يعمل عندهم في تلك الحفاير من أهل العقبة في الزمن القديم كانو يعطونه أحيانا «قنو تمر» (محمل من التمر) لقاء عمله في تلك الحفاير، لكن لما تم تطويب الأراضي في العقبة ولأن أصحاب الحفاير هم منشغلون بأغنامهم، ولا ينزلون الى العقبة إلا في «الموسم»، لم يهتمو لتسجيل الأراضي وتثبيتها رسميا، رغم انه في بعضها كان هناك حجج.
في التسجيل الرسمي النهائي، كان يعتمد, كما يقول أهل القرية، على ضمير أصحاب القنو (الذين كانوا يشتغلون في الحفائر)، فبعضهم ثبت اسم صاحبها الأصلي، وبعضهم لم يفعل، كما أن الناس «كان فيهم جوع، ومحتاجين»، هكذا يقول أبو محمد «فكانو بس ينزل الواحد على شريكو في العقبة، يرد عليه بقوله» والله العصافير اكلن البلح، فحسو إنهم مش مستفيدين، وصارو يبيعو بحفايرهم، بعض الحفير انباعت بثلاثين نيره، وواحد اعرفو راحت حفيرتو ببلاش، يعني اخذ عليها ثلاث نيرات.
الطريق الى قلخه
'قلخه».. هي اسم المقبرة القديمة للقرية، وفيها قبر أحد الأولياء الشعبيين، لكن الدرب إليها لا بد وأن يمر من الحميمة العباسية، كما أن الطريق إليها ترابي غير محدد، ولذا فهناك ضرورة لدليل من أهل القرية، وكان معنا سالم عطوه (أبو جهاد) رفيقا ليوصلنا إلى قبر الولي هويمل أبو زيتون.
وقد كان دليلنا يعمل سابقا مع البعثات التي كانت تنقب عن الآثار في الحميمة، لذلك حين اقتربنا من أطلال قريته، بدأ يشير الى معالم القرية معرفا ايانا عليها، وكأنه يستعجل الكلام قبل أن نتجاوزها، قال «هنا المدرسة القديمة، وهذا المسجد العتيق، وتلك الكنيسة»، وأوقفنا حتى نتمكن من رؤية فسيفساء صليب على أرض الكنيسة، ثم أشار بيده إلى البرك النبطية، وتحدث عن بقايا قنوات الماء الفخارية النبطية التي تأتي بالماء من رأس النقب إلى الحميمة.
وأوضح لنا بأنه يتحدث بثقة عن المكان لأنه سكن فيه، كما أنه اشتغل هنا مع بعثة كندية، وكان عاملا يحفر معهم، وقد كان يرأس تلك البعثة بروفيسور كندي.
يقول أبو جهاد أنه في إحدى الأيام «كانوا يحفروا وطلع تمثال»، وما أن رآه البروفيسور حتى أعطاهم إجازة في ذلك اليوم، ولم يعرفوا ماذا حدث للتمثال بعد ذلك، ويضيف أنه «في منطقة ثانيه، كان هذا عام1998م وجدنا حلق قديم، وكانت هناك آثار كثيرة تخرج معنا..».
نتجاوز الآثار القديمة، ونترك الطريق لنخوض في أرض ترابية ممتدة، ثم بعد مسافة نتوقف عند ثلاثة قبور محفورة في الصخر، وبعدها نواصل السير بحثا عن المقام.
هويمل أبو زيتون
يطالعنا المنظر من بعيد.. بدائيا، يغلفه اللون البني الضارب إلى السواد، والقبور بموازاة سطح الأرض، متداخلة مع بعضها البعض، أما الشواهد فهي صخور غير منتظمة وإن حاول من اختارها أن تكون أقرب إلى الشكل المستطيل، لكنها مدببة في كثير من حوافها، وكأنها رماح تنمو من باطن الأرض.
أشار لنا الدليل.. «هناك القلخة»، ثم تابع: «نزلوني هان».
توقفنا، وبدأت محاولة إقناعه بأن يدخل معنا المقبرة، إلا أنه أوضح لنا بأن هناك عرف قديم لأهل القرية، بأن لا يدخلوا المقبرة إلا لحاجة يطلبونها من الولي، أو لكي يقبروا أحدا فيها.. قال إن هذا «عرف قديم»، وما زال بعض أهل القرية يتخوفون من كسر هذا التقليد.
بصعوبة رافقنا، وهو متخوف وقلق، وحين مررنا بالقبور كنا نحاذر أن نطأ عليها لكنها متداخلة بشكل لا يظهر منها إلا الشواهد كأنها أشتال قصب صغيرة متقاربة، وكان قبر الولي سليمان أبو زيتون في أبعد زاوية جنوب المقبرة، وكان عليه مجموعة من الحجارة وقطع حطب، ونبات رتم أخضر، وحجر مستطيل يستعملونه لإيقاد البخور عليه، وكمية من السكر في وعاء، وبجانب القبر هناك مساحة قال لنا الدليل أنه تذبح فيها التقدمات من أغنام قريبا من قبر الولي، يقدمها من يأتي إلى هنا مريضا أو طالب حاجة.
ويروي الدليل قصة عن جماعة من السعوديين جاؤوا الى قبر أبو زيتون، وكان معهم أحد رجال القرية، وكان المريض الزائر للقبر مصاب بانفصام في الشخصية وعندما أرادوا أن يناموا بجانب القبر، وكانوا قد أشعلوا النيران هناك، شاهدوا قماشا ابيضا يخرج من قبر الولي، وهربوا خوفا من هناك، ويقسم الرجل الذي كان يرافقهم انه شاهد هذا، وقد يكون أبو زيتون غاضب من تصرف أحد الموجودين ولهذا أخافهم، هذا كان جزءا من المعتقد الشعبي حول قبر سليمان أبو زيتون الذي تروي الروايات أنه كان في الأصل أحد أبناء القرية الصالحين.