كتاب

جدليّة التعليم والعمل

في مجتمعنا رأي بوجوب ربط البرامج الأكاديمية بفرص العمل، ورأي يُصرّ على أنّ ذلك غير ممكن.

الأول مفاده أنّ الشهادة يجب أن تُفضي إلى وظيفة بعد التخرج، لأنها مطلب أساسي، وأن البرامج التي لا تفعل ذلك ستؤدي إلى التحاق خرّيجيها بطوابير البطالة.

الثاني يؤكد على أنّ سوق العمل شاسع ومُتذبذب وبالتالي يصعب ربط البرامج بالسوق حيث إن البرامج تأخذ وقتاً لتُصمّم وتستقر وتُطوّر، ولا يمكن التسرع في طرحها وتجميدها وإلغائها بناء على تذبذبات وتَغيّرات، إضافة إلى «تصوُّر» قد لا يكون دقيقاً.

والحقيقة أن كلّ رأي يستند إلى منطق، وأنّ في الأمر برمّته تفاصيل كثيرة لا بد من التّنبه لها.

فهنالك حديث عن تغيّرات جذرية في السوق بدأت تحدث، نتيجة الثورات الصناعية المتسارعة، وأن دراسات تَشي بأن 65% من الوظائف المعروفة ستختفي قريباً وتظهر أخرى لم نسمع بها.

يُضاف إلى ذلك أنّ البرامج مرتبطة بوجود أعضاء هيئة تدريس مُتخصصين ومُختارين بعناية. من أين تأتي المؤسسات بهم بالسرعة المطلوبة، وماذا تفعل بهم إذا قرر أحدهم بأن برامجهم لم تعد لازمة؟

هنالك عوامل بشرية ومجتمعية وحياتية وإنسانية أكبر وأسمى من حاجات السوق، على أهمية الأخيرة، لا بد من التنبه لها.

ماذا عن حاجات المتعلم ورغباته وميوله؟ ماذا عن حاجات المجتمع والحياة؟ ماذا عن العلم؟

معطيات وأسئلة حقيقية ومُلحّة يمكن إثارتها على هامشيّ الرأيين.

بيد أن الجهود يجب أن تنصب على محاولة التوفيق بينهما، لا على مفاقمة الحدة بينهما.

والتوفيق مُمكن، ونُقدم الآتي ليكون مُنطلقاً للحوار والبحث عن حلّ:

أولاً، من الخطأ وضع البرامج في سلّة واحدة، فهنالك تنوّع في أهدافها ونتاجاتها وبناها وارتباطها بالسوق.

منها برامج ذات خصوصية وتخصصّية، ومنها برامج أكثر عمومية وشمولاً.

الأولى ترتبط بوظائف مهنية محددة تكون حكراً على تخصصات بعينها، مثل الطب وطب الأسنان والتمريض والمحاسبة والحقوق. أما الثانية فلا ترتبط بتخصص ما، بل بمعارف ومهارات عابرة للحقول، يمكن لأي خرّيج من أي برنامج يُقدِّم تلك المهارات، من الرياضيات إلى الفلسفة إلى التاريخ إلى اللغات، الالتحاق بها. وهذه موجودة بكثرة في سوق العمل.

البرامج التخصصية ترتبط بحاجات مجتمعية لا غنى عنها، وستكون معنا لأمد بعيد، وطنياً وإقليمياً ودولياً. ويجب أن نتذكر أن برامجنا ليست مصممة لسوقنا فقط، بل للإقليم والعالم. وربما يكون الحديث هنا فقط عن ضبط الأعداد.

أما البرامج الرحبة، فالمُهم فيها المهارات التي يكتسبها الطلبة، إضافة إلى المعارف. وكل هذه البرامج على اختلاف مُسمياتها يجب أن تُركز على المهارات المطلوبة في السوق، لأن المُوظِّف يطلب مهارات وليس مسميات برامج.

لا توجد برامج لا يمكنها تقديم المهارات المطلوبة في السوق، ومنها مهارات التواصل والتفكير والتصميم والمهارات الشخصية وغيرها.

العلّة هنا تكمن إذا قدمت تلك البرامج معلومات ومعارف فقط، وأهملت المهارات.

ثانياً، لا بد من سعي كل البرامج لتأهيل المُلتحقين بها لتوليد فرص عمل وليس فقط لإيجاد فرص، من خلال التركيز على مهارات الإبداع والابتكار والاختراع والتصميم. وهذه نقطة يغفلها البعض.

إذاً، يمكن المواءمة بين البرامج وحاجات السوق وتلافي الجدلية، إذا نظرنا للأمر من الزوايا التي تُقرّب وجهات النظر ولا تفاقمها.