للسياسة النقدية أهداف عامة نبيلة تسعى من خلالها الى رفع مستوى معيشة المواطن واهم هذه الاهداف السيطرة على معدلات التضخم وتخفيض معدل البطالة وزيادة معدلات النمو الاقتصادي. لكنها تصطدم بعقبات وفي كثير من الاحيان يكون لها تبعات كبيرة خاصة في الدول التي تطبق نظام السوق الحر حيث تتاثر اسعار الاصول في تلك الدول بعوامل العرض والطلب وفي ايامنا هذه، تركز هذه السياسة على اداة واحدة وهي اسعار الفائدة قصيرة الاجل والتي لها بالغ التاثير على الكثير من العوامل. في الولايات المتحدة، انهار بنك سيليكون فالي وتم اغلاقه قبل عد? ايام (يوم الجمعة 10/ 3/ 2023) وهو بنك متوسط الحجم حيث بلغت موجوداته بنهاية عام 2022 بحدود 210 مليار دولار وترتيبه 16 بهذا المقياس. ولكن كيف حصل الانهيار؟
هناك ثلاثة اسباب رئيسية، الاول الحملة القوية وغير المسبوقة التي قادها البنك المركزي الامريكي برفع اسعار الفائدة خلال فترة قصيرة قياسية والثاني طباعة النقد خلال فترة كورونا والثالث سوء ادارة بنك سيليكون المالية خلال الفترة 2020-2022 وتركزه في قطاع التكنولوجيا. منذ تاسيسه في عام 1983، استطاع ان ينجح ويتميز وان يعبر كل الازمات وفي بداياته كان يقدم القروض العقارية لكنه ابتعد عنها فيما بعد لانها لم تكن مجدية وتوجه الى شركات التكنولوجيا الناشئة وصناديق راس المال المبادر وقدم لها كافة التسهيلات ونجح في ذلك بحيث ا?تحوذ على 50% من التعاملات المالية لهذه الشركات واصبح ينظر اليه على انه بنك التكنولوجيا. وفي عام 2018، قرر الرئيس الامريكي ترامب التراجع عن قانون (دود-فرانك عام 2010) بهدف تخفيض القيود والتشريعات على البنوك التي يقل حجم اصولها عن 250 مليار دولار بعد ان كانت تخضع لنفس التشريعات المتعلقة بالبنوك الكبيرة.
وفي عام 2020، تحسنت اوضاع شركات التكنولوجيا كثيرا وتزامن ذلك مع بدء العمل ببرامج التحفيز الاقتصادي خلال فترة كورونا، فانهالت الاموال على البنك لترتفع من 45 مليار دولار في عام 2017 الى 190 مليار دولار في عام 2020 في حين ارتفعت قروضه من 25 مليار دولار الى 66 مليار دولار اي ان الودائع تزيد على اربعة اضعاف القروض وهذا وضع مالي غير سليم وغير مقبول. وفي نهاية عام 2021، حقق البنك اعلى مستوى من الارباح منذ تاسيسه الامر الذي دفعه الى شراء المزيد من سندات الخزينة والرهن العقاري خلال عامي 2020 و 2021 باسعار مرتفعة نس?يا بسبب انخفاض اسعار الفائدة.
وخلال عام 2022 ومع بدء الفيدرال ريزيرف برفع اسعار الفائدة، انخفصت قيمة محفظة السندات بما مقداره 17 مليار دولار وهنا كانت البداية الفعلية للازمة حيث بدات صناديق راس المال المبادر ترسل الرسائل لشركات التكنولوجيا تنصحها بسحب اموالها من البنك. وفي يوم الاربعاء 8-3-2023 باع البنك سندات خزينة بقيمة 21 مليار دولار لمقابلة عمليات السحب ولكن بسبب ارتفاع اسعار الفائدة خسر ما يقرب من 2 مليار دولار مما اثار الرعب لدى المستثمرين ودفعهم في اليوم التالي (الخميس) لبيع السهم فانخفض سعره من ما يقرب من 260 دولار الى 110 دولا? وتم سحب اكثر من 42 مليار دولار في هذا اليوم ثم حاول اصدار اسهم لكنه فشل في ذلك مما عزز الشعور لدى المودعين بانهيار البنك وفي يوم صباح الجمعة اغلقت شركة ضمان الودائع البنك ووضعته تحت الحراسة وتم وقف التداول باسهم البنك واعلنت يوم الاحد 12-3-2023 ان كافة الودائع مضمونة حتى تلك التي تزيد عن 250,000 دولار وان اي شخص يريد السحب، فسيكون له ذلك يوم الاثنين 13-3-2023. واعلن الفيدرال ريزيرف عن عمل تسهيل جديد بحيث يستطيع اي بنك ان يحصل على السيولة من الفيد مقابل حجز السندات.
ويذكر بانه في نهاية عام 2022 بلغت قيمة الودائع 170 مليار دولار (منها 121 مليار دولار غير مغطاة بضمان الودائع) وقيمة محفظته من السندات 120 مليار دولار وقروضه اقل من 70 مليار دولار. وهنا تمثل خطأ البنك الاستراتيجي بانكشافه على مخاطرة سعر الفائدة (التي رفعها الفيدرال ريزيرف بشكل كبير خلال عام 2022 من 0% في اذار الى 5% تقريبا في نهاية العام) لان لديه فجوة سالبة اصلا بين القروض والودائع (70-170) بالاضافة الى محفطة السندات.
السياسة النقدية في الولايات المتحدة اصبحت موضع الاتهام فطباعة النقد لتمويل احتياجات كورونا ادت الى فوائض نقدية كبيرة لدى البنوك وتبع ذلك ماراثون ارتفاع اسعار الفائدة فاستثمر هذا البنك في السندات الحكومية وكان ذلك هو السبب المباشرلكن سوء الادارة هو السبب الحقيقي؟ فكيف لبنك ان يحتفظ ب 120 مليار دولار في السندات من اصل 210 مليار دولار من الموجودات؟ وكيف لبنك ان يحتفظ ب 170 مليار دولار من الودائع التي اصبحت مكلفة جدا في حين لديه قروض تقل عن 70 مليار دولار، وكيف لبنك ان يركز في قطاع واحد خاصة وان ودائع هذا القط?ع قصيرة الاجل وقابلة للسحب السريع؟ وللتوضيح، فان ارتفاع اسعار الفائدة مفيد للبنك في جانب القروض والبالغة 70 مليار دولار (لان القروض تمثل المصدر الاساسي للدخل) لكنه ضار للبنك في جانبي الودائع والسندات والبالغة (170+70).
من الواضح ان هناك مشكلة هيكلية في محفظة البنك كان من المفترض على ادارة البنك ان تكون حصيفة وكذلك هناك اهمال من مجلس ادارته. وفي الجانب الاخر، اين كانت اجهزة الرقابة من كل ذلك؟.
لو كانت الظروف طبيعية، فان احتفاظ البنك ب 120 مليار دولار من السندات ليس بالامر السيئ لانها تخلو من مخاطرة عدم التسديد Credit Risk لكنها معرضة لمخاطرة سعر الفائدة، فاي ارتفاع فيها يؤدي الى انخفاض قيمة هذه السندات فالبنك اشتراها وهي مرتفعة السعر وباعها وهي منخفضة السعر. وهنا نخلص الى القول بان وضع البنك المالي لم يكن سيئا لكنه غير قابل للاستمرار والظروف كانت سيئة خاصة فيما يتعلق بسعر الفائدة.
البنوك شركات مالية حساسة فكتير من الاحيان تفلس بسبب الاشاعة لانه عندما تنتشر، يبدء سحب الودائع وبكثافة خاصة مع توفر الوسائل التكنولوجية. ان معظم اموال البنوك مستثمرة في قروض وادوات اخرى طويلة الاجل لا يمكن لها استردادها قبل مواعيد استحقاقها لكن عندما يبدء سحب الودائع فعلى البنوك ان تلبي وبشكل فوري وهنا تتمثل المعضلة!
وفي الاردن ليس من المتوقع ان يكون لهذه التداعيات اي تاثير فلا يوجد اي تعاملات مالية مع هذا البنك ولكن نتاثر بتغيرات سعر الفائدة في الولايات المتحدة في ادارة السياسة النقدية.
إن رفع سعر الفائدة في الاردن وعلى الرغم من بعض تبعاته السلبية، إلا أن له ايجابيات تفوق بكثير تلك السلبيات واهمها المحافظة على استقرار الدينار الاردني. وفي ادارة البنوك، فهناك العديد من التشريعات لدى البنك المركزي الاردني التي تحكم عمل البنوك في مجال ادارة الموجودات والمطلوبات والتركزات الائتمانية. اما بالنسبة الى السيولة، فاي بنك يستطيع الحصول عليها من البنك المركزي عن طريق خصم اوراقه المالية من خلال اداة اعادة الشراء او اعادة الخصم او حتى من خلال الاحتياطي النقدي في الظروف الصعبة.
ما نتعلمه من هذه الأزمة أن على البنوك أن لا تحتفط بفجوات سالبة كبيرة (الودائع اكبر من القروض بكثير) ولا بفجوات موجبة كبيرة (القروض أكبر من الودائع بكثير) وأن لا تتركز في أي قطاع حتى لو كان مربحا والاستمرار في الرقابة المكثفة على البنوك.
وكذلك أن لا ترتفع أسعار الفائدة بشكل كبير إلا في الظروف الاستثنائية جدا وأن تعود وتستقر وباسرع وقت ممكن عند مستويات منخفضة جدا لان من اهم الركائز السليمة لاي اقتصاد ان تسود اسعار فائدة منخفضة جدا لأن هذا أكثر عامل نقدي يخدم الاقتصاد.
خبير مالي واقتصادي/ جامعة الزيتونة