وسط هذه الفوضى والزحمة الحياتية غير محددة المساحات أو الحدود وأجندة خاوية ذات جدارية هشة، هناك ظروف تصنع أو تفرض وبدون تضاريس للتحليل والمناقشة تمهيدا للتخطيط ورصف طريق المستقبل، حيث يعيش أبناء هذا الجيل زمنا صعباً وظرفا مؤلماً لا يحسدون عليه، بكل المعاني السلبية والإيجابية التي نتجت عن التقدم الذي حاصر فكرهم؛ نعم، هناك تسهيلات حياتية وتضحيات من الأهل لتهذيب الأصول التكنولوجية التي دخلت المرافق الحياتية الجديدة للفرد والمجتمع، وقد وصلت نسبة الإشباع لدرجة الإدمان، فيصرف الجهد والوقت على حساب بند حياتي آخر ب?كل عفوي أو نمط سلوك وحياة، حتى بدى للبعض بقدرته على امتلاك كل شيء بدون مجهود وتعب، ناهيك عن سهولة البحث على المواد المصنعة لدمار الأدمغة والسلوك، تغذية الشذوذ واعتبار الجنس والمتعة هما الأساس والهدف، خصوصا في زمن الحرية المفرطة التي تتغذى بسموم وسائل التواصل الاجتماعي بقناع مسؤولية الفرد بقالب الحرية، حتى لو كان هامش التفكير يفرض سطحية القرار والتصرف، اعتمادا على الدعم العائلي المطلق، بما يوفر من حماية وامكانيات.
في زمن قريب، كنا نقول (ويقيني باستمرارية القول) أن المجتهد يراجع فصول التاريخ للاستفادة من أحداثه؛ تاريخ الفرد والعائلة والمجتمع، تاريخ شخصية فرضت ذاتها بجهدها وتعبها تمهيدا للامتثال بها، فالكثير دوّن سيرته، لكن علينا حذر الاختيار حيث تكون العبرة من المراجعة الأمينة والدقيقة للاستفادة فلا نجاحات بدون خسارات، بهدف بناء خطط الحاضر للمستقبل، مقرونا بإضافات جهود ولمسات للتميز، تعبر عن تغيير حقيقي لصنع الذات، ولكن الواقع الصادم يغلق هذه النافذة، ويضلل منور الحقيقة، بل يحصرها بفئة تمثل الأقلية (التي نتشرف بعضويت?ا والانتماء اليها) بالعرف الواقعي، لتكون غير مؤثرة بصوت ونغمة يصعب سماعها أو فهما، بل يصعب منحها فرصة التمثيل والتعبير، فهناك تطورات وثورات عصفت بفكر الإنسان وأبعدته عن الواقع، وأصبحت التربية على المبادئ ممارسات للبعض وقد تكون المشكلة لصاحبها في بعض المواقف، لأن هناك مستجدات دخيلة وركيكة، أوهمت الجيل بأن ما تحقق هو نتاج طبيعي للجهد والعمل، فقفزت بمظلاتها فوق المواقع والانتاج، وفي داخلها اعتراف بضعف الأداء، لكنها الأنانية وحب الذات.
هناك خوف حقيقي على مستقبل الفئة الشبابية التي نشأت ووصلت بدون جهد، بل رضعت مبادئ اجتماعية خاطئة لأن المستقبل لن يعطي ضمانة أو كفالة أو مناعة للإستمرارية، فعبارة «الأنا» بوصلة لن تتحرك بالإتجاه الصحيح دائماً، نتيجة اختلال بموازين التفكير التي تعبث بالحقائق والوقائع والوجود، تطوعها كرقائق لصنع مجسمات تشبع غرائزها التي تتغذى بقصص تُروى بطولاتها بدون شاهد أو دليل، قصص مليئة بالأمجاد لا دليل على حدوثها أو أحداثها، فحاضرنا اليوم تُكتبُ أحداثه بالقوة والاقتصاد؛ إعادة تشكيل وترسيم لخارطة العالم، يعتريها الصدى وتفت?ر لأدنى القواسم المشتركة.
الجيل الحاضر من الأبناء سيكون الضحية للمستقبل حيث سيتوه بين تحديد الاتجاهات إن تركناه بمبررات الواقع المؤسف؛ فهناك مسؤولية الزامية وأخلاقية ملزمة للأهل والمدرسة والجامعة بإعادة التوجيه لضبط البوصلة بمسيرتها الصحيحة؛ علينا مراجعة المنهاج، علينا أن نرضعها مبادئ الحق والمساواة والمنافسة واحترام مواهب الآخرين، علينا أن نعلمهم أن حياتنا مسابقات تتغذى بالروح الرياضية؛ جولة نكسبها وأخرى نخسرها، علينا المحافظة على النتيجة الأولى، ومراجعة أسباب الاخفاق في الثانية لتداركها. لا يوجد نتيجة مضمونة، ولن يتحقق التفوق بدو? جهود وتضحيات؛ فعلينا واجب تعظيم قيم الحُكم والعدالة والحيادية، فهم أمانة ربانية، احتضناها بمحبة وعلينا توجيهها للطريق الصحيح لضمان مستقبلها حتى لا تقع أسيرة وفريسة للواقع الذي لن يرحم. نريد تعظيم قيم العطاء والمسؤولية، نعطيهم جرعات بالحيادية والاعتراف، تغذية مهاراتهم والاكتفاء بما لهم بدون الاعتداء على حقوق الغير كمنهاج أو سلوك بطولي.
نريد ممارسة مسؤولية تداخلية مشتركة بين الأهل والمدرسة والجامعة لصقل الشخصية بميزانها المناسب، فلا ذنب لهذا الجيل الذي سيكون سيف المستقبل ودرعه الحامي، أن ظروف الحاضر هي صراعات وحروب وذبذبات وتغيرات مناخية مهددة للوجود البشري، تتغذى بالطمع وترتوي بحقوق الغير، تُنكر على الآخرين ما تحلله لذاتها؛ لا ذنب لهذا الجيل أننا في عصر التقدم بوسائل التكنولوجيا والإتصالات ووسائل التواصل الإجتماعي، واستحداث منصات التعبير المجانية (وهي ليست بهذا القالب والهدف) بشكلها الفوضوي والعشوائي بدون ضوابط أو قوانين، وربما ابتعاد ال?هل القصري عن مراقبة الأبناء بسبب عواصف الحياة التي زلزلزت البناء العائلي، تفرض عليهم التوقف للترميم والعودة للمنزل والتعاليم العائلية التي تتغذى بالمحبة والتعاون والمساواة، فهذا الجيل هو الأذكى لظروف الحاضر، وقد حُرِمَ من استخدام مهارات حياتية أساسية؛ ذهنية وفكرية لسهولة التطبيقات التي تقدمها التكنولوجيا بثوب المجانية، فالعودة للفناء العائلي ستقوي الروابط وتدعم البنيان لأن الأسس الصحيحة لتربية الأبناء مسؤولية مشتركة؛ المنزل، المدرسة، الجامعة وللحديث بقية.