كتاب

هل نكون على قَدْرِ التحدي؟

المتابعُ لأمور التّعلّم، على مستوياته المتعددة، يلاحظ توسعاً مضطرداً في فضاءاته: فلسفةً وأدواتٍ وأساليب ودوائر. وهذا التوسع يُشكّل فُرَصاً هائلة للمتعلمين وتحدياتٍ جمّة للمعنيين بإدارة التعلم.

قبل مدّة ليست ببعيدة كنّا نتحدث عن التعليم المدرسي والتعليم الجامعي بمكوناتهما المعروفة. وكان الاهتمام مُنصباً على التعليم الوجاهي المتمركز حول المُدرّس، والمرتبط بغرفةٍ صفية وحرمٍ مدرسي أو جامعي، وزمنٍ مُحدد هو اليوم الدراسي، وكتابٍ يّختزِلٌ المنهاج، وأداءٍ تحصيلي.

وكان المتعلم مُتلقياً بشكل عام، وُمركّزاً على المهارات الدنيا، من تذكّر وحفظ وفهم.

شيئاً فشيئاً بدأت هذه المنظومة الجامدة تنكسر، وأصبح الخبراء والدارسون يتحدثون عن أبعاد أخرى دفعة واحدة، بالتوازي والتتابع، بعضها معاكس لما هو موجود، وبعضها مُناظر، وبعضها مُكّمل، وبعضها مُوسِّع، وبعضها جديد.

أخذ الحديث ينصبّ حول التعلّم المتمركز حول المُتعلّم، بحيث يكون المُدرس مُوجهاً ومُيسراً، لا مُلقناً، والمتعلمّ فاعلاً مُمارساَ نَشِطاً. وأصبحت المهارات العليا أهمّ من الدنيا، وصار التركيز ينصب على مهارات لم نسمع بها من قبل، مثل مهارات التعلم الذاتي وإدارة المعلومة وعمل الفريق. ثم أتتنا الثورة الصناعية الرابعة بمهارات إضافية، مثل المهارات التقنية المتعددة والتواصل والتصميم والذكاء العاطفي والريادة والابتكار.

تغير تصنيف بلوم للمهارات والقدرات، فاحتل الابتكار رأس الهرم مكان التقويم؛ ثم أخذنا نتحدث عن تصنيف بلوم الرقمي.

وأخذ الاهتمام ينصبّ كذلك على ضرورة إدماج التكنولوجيا في التعليم، والاهتمام بالتعلم الإلكتروني بأشكاله الثلاثة الرئيسة، كخيار الحاضر والمستقبل، وليس فقط لظروف الجائحة وما شابهها: التعلم الإلكتروني الكامل عن بعد، والتعلم المُدمج، والتعلم الهجين أو المتنوع.

ثم جاء مفهوم التّعلم مدى الحياة، بحيث لا يتوقّف التعلم في نهاية المرحلة الجامعية بل يستمر مع الفرد طيلة حياته، بسبب تغيّر المعارف ومتطلبات العمل والحياة باستمرار؛ وبسبب أنّ العديد من الأفراد سيضطّرون لتغيير أعمالهم أكثر من مرة في حياتهم، الأمر الذي يتطلب معارف ومهارات ومؤهلات جديدة.

وجاء مفهوم التعلم للجميع، بحيث لم يعد التعلم حكراً على مراحل عمرية بعينها، أو للذكر دون الأنثى، أو للأفراد المنتمين لمناطق وشرائح أوفر حظاً؛ التعليم للجميع بكل ما في الكلمة من معنى، أي جميع الأفراد في المجتمع بغض النظر عن العمر أو الجنس أو مستوى الثقافة أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي.

وأخيراً، وليس آخراً، جاء مفهوم التعلّم المَرِن، الذي يجمع كل ما ذكر سابقاً وأكثر، والذي يتحدث عن ممارسة أكبر درجات المرونة في وقت التعلم ومكانه وأدواته ومحتواه وإيقاعه ؛ وكذلك أدوات التقييم، وشروط القبول، ومعادلة الساعات المعتمدة بالخبرات والكفايات، والتركيز على المؤهلات الصغيرة، وليس فقط الدرجات العلمية المعروفة؛ وغير ذلك.

هذه المستجدات وغيرها، والتي تندرج تحت مفهوم تَوسُّع فضاءات التعلم والتي كَسرت حواجز العمر والزمان والمكان والأداة والأسلوب، تصبّ في مفهوم دمقرطة التعليم وفتح الفرص أمام الكل بمرونة غير مسبوقة، مواكبةً للتطورات وانسجاماً مع أنماط العمل والحياة التي تغيرت وتتغير بسرعة.

يبقى أن نُحسن التعامل مع هذه المُستجدات والفُرص، على نحو احترافي، لنفيد منها ونوظّفها لصالحنا بما يخدم تطوّرنا وازدهارنا.

فهل نكون على قدر التحدي؟