محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

وبعضُ الحبّ حياة

No Image
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ
عائشة الكيلاني (كاتبة أردنية) تجلس في مكتبها المتواضع الذي تتوزع على جدرانه بضع شهادات استحقتها خلال دراستها وعملها، بيدها أوراق وقلم تدون الحالة، وخلفها مباشرة صورة لمنظر طبيعي.. سماء صافية تسطع فيها الشمس بين غيوم تناثرت فوق نهر يجري تكاد تسمع صوت انسيابه لدقة تفاصيل الرسمة التي اختارتها بعناية أملا منها أن تريح أعصاب مرضاها..

جلس أمامها مريضها الثلاثيني ذابل الوجه وقد تنفخت جيوب عينيه..

نظر لها متأملا فبادرته: «ما يزعجك؟ أخبرني.. هلّا شرحتَ لي.. أنا هنا لأسمعك.. خذ وقتك وتحدث بما تراه يثقل كاهلك».

أجاب: «كنت سعيدا تملؤني الحياة وأعيشها بكل تفاصيلها.. درست وتفوقت وحصلت على أعلى شهادات.. تزوجت بمن رغب بها قلبي، وحصلت على الوظيفة التي أتمناها، ثم جاء ذلك اليوم الذي قلب حياتي رأسا على عقب، عندما قررت أن أغامر بما أملك فاستثمرته بتجارة ظننتها رابحة فخسرت بها ما أملك وأصبحت مديونا.. انعكس هذا على نفسيتي، فأصبحت شخصية غاضبة عصبية.. حتى زوجتي ما عادت تحتمل فطلبت الطلاق، وتركتني هي وأطفالي، وهذا جعلني أدخل في حالة كآبة شديدة.. ما عدت أحتمل الحياة.. فكرت بالانتحار.. لكنني لم أجرؤ على فعل ذلك.. وزملائي ابتعدوا عني لِمَا رأوه من سوء مصاحبتي».

كانت تستمع بهدوء.. لم تكن حالة فريدة.. فقد شهدت الكثير مثل هذه الحالات.. مَن ملك كل شيء ثم فقده، وأصبح تائها في هذه الحياة، لا يتقبل خسارته؛ فيتحول لشخص كئيب عدائي... لم يكن القرار الذي اتخذه ما أفقده زوجته وأصدقاءه، بل إن هذا حدث بسبب ردة فعله على الخسارة.. كان بإمكانه أن يضبط أعصابه فتبقى الزوجة تعينه، وزملاؤه يؤنسونه، لكنّه فضّل أن يلقي بأعبائه على من حوله، ففقد كل مقومات الحياة.. لم يكن لها أن تنطق بهذا لأنه لن يحتمل التوبيخ بحالته هذه.. إنما يحتاج من يمتص غضبه ويعطيه الأمل الذي يحتاجه، ويحرره من قيود اللوم وتأنيب الضمير..

ابتسمت وقالت: «شعور الألم أمر طبيعي عند الفقدان والخسارة.. وكل منا يواجهه بطريقته.. منّا مَن يكتئب وينعزل، ومنّا مَن يغضب ويسكب جام غضبه على المجتمع، ومنّا مَن يفضّل أن يفني نفسه لقاء ما يظنه راحة أبدية».

وأضافت: «سأسألك سؤالا: ما أعظم نعمة تشعر أنها مُنحت لك من كل ما حصلت عليه؟ أريد أن تحصر الأمر بنعمة تظن أنها هي أفضل ما امتلكت.. هل هي روحك التي بين جنباتك، أم مالك، أم زوجتك، أم أطفالك، أم أصدقاؤك؟ رتب الخيارات السابقة تنازليا.. من الأهم إلى الأقل أهمية».

أجاب: «أطفالي، ثم روحي، ثم زوجتي، ثم مالي، ثم أصدقائي».

قالت: «ومع ذلك، فقد فكرت أن تفني روحك لقاء ما هو أقل أهمية منها.. وفقدت أهم ما لديك؛ أطفالك وزوجتك، لقاء ما هو أدنى منهم أهمية»..

هز رأسه موافقا..

قالت: «إذن لو عادت زوجتك وأطفالك سيعود لك بعض ما خسرت.. وهذا مرهون بك».

جاء ردّه على شاكلة سؤال: «كيف أعيدهم وأنا بهذه الحالة النفسية؟"

قالت: «سأضع لك خطة لتتجاوز الضغط النفسي مع تناول حبة دواء يومياً لأسبوعين فقط.. ثم ستراجعني لنرى تطور حالتك».

شكرها وحمل الوصفة وخرج وقد شعر أنه أفضل حالا..

خرج مريضها وجلست تفكر قليلا بمن مروا بعيادتها يشكون ألم الفقد.. مَن فقد عزيزا، ومَن فقد مالا، ومَن فقد عملا.. وكلهم يظهرون بالمعالم نفسها..

هي لا تلومهم، فقد عانت هي أيضا من فقْد الأحبة.. تدرك تماما كيف يشعرون.. وكأن الإنسان تعرّى من قوته فتصبح الروح هشة، لا رغبة لها للمقاومة.. ولكن هؤلاء لا يدركون أنهم طالما استطاعوا أن يعبّروا عن سبب حالتهم ويتحدثون بوضوح عن سبب معاناتهم، فهم أقل معاناة ممن لا يملك القدرة على الكلام ولا يعلم سبب ضياعه.. فهناك من يعاني حتى تغيب روحه في غياهب الحزن فلا يعود قادرا على النطق أو الكلام.. هؤلاء الذين يلجم الحزن أفواههم، هم من ملكوا عقلها وهي تحاول أن تدفعهم للتعبير.. هؤلاء الذين خسروا شيئا أعظم قدرا من أرواحهم، أحبوا ما هو أكبر من حبهم لأنفسهم، حتى نسوا أنفسهم وأطلقوها في عالم لا رجعة منه.. ليتهم يعلمون أن لا خسارة أكبر من خسارة أنفسنا، حين نقنعها أن هناك ما هو أعظم منها قدرا، وعند فقده نتركها لينهش بها الحزن فتذوي بلا طاقة ولا معين..

وتذكرت اقتباساً يقول:

"هي نفوسنا في حبِّها حياةٌ لما حولها، فإذا قويت هذه النفس أذلّت الدنيا وإذا ضعفت أذلّتها الدنيا.. ولا يمكنك حقاً أن تحب شخصاً آخر إلّا إذا كنت تحب نفسك أولاً».
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF