أعتقد أن القراءة تجربة ذاتية وذاتية جداً، إذ أحيانا نتفاعل مع فقرة أو عبارة ما من رواية كاملة، ووفقا لتلك العبارة نغير قناعات ونثبت أخرى، أو نجيب على أسئلة بحثنا مطولا عن أجوبة لها. فالنص الأدبي الناجح من وجهة نظري هو ذاك الذي نعثر فيه على فكرة تلامس أرواحنا بطريقة ما.
وهذا ما خلصت إليه عندما بدأت قراءة رواية «سنوات الجري في المكان» للكاتبة المصرية نورا ناجي الصادرة عن دار الشروق المصرية (2022)، التي كان هدفي من قراءتها البحث ما وراء العنوان، وهل تدور فكرة الرواية حوله؟
وأعتقد أن سؤالي هذا من بين الأسئلة البديهية التي قد يطرحها أي قارئ يمسك بين يديه كتابا بعنوان غامض، عنوان لا يشرح نفسه بنفسه لدرجة أن يكون بإمكانك فهم مضمون الرواية، ما يحيلني إلى عبارة أورهان باموق التي يرى فيها أن «التصوير المفصل للأبطال على أغلفة الكتب إهانة ليس فقط لخيال المؤلف، ولكن أيضًا لقرائه». وفي الوقت ذاته يقول: «عناوين الكتب مثل أسماء الناس: تساعدنا على تمييز الكتاب من بين مليون كتاب آخر يشبهه».
وهذا ما يحدث للقارئ حين يمسك رواية «سنوات الجري في المكان»، إذ لا يستطيع أن يفهم الرواية من خلال العنوان، ولا يمكنه أيضا معرفة مضمونها من صورة الغلاف.
والإجابة على هذا التساؤل نعثر عليها ليس بقراءة الرواية، بل بمحاولة فهم العلاقة بين فصولها المتداخلة بعضها ببعض، فنحن نقرأ رواية داخل رواية ونحاول قدر الإمكان القبض على فكرة الرواية الأصل، وأعتقد أن كل قارئ سيفسرها وفقا لتأويله الخاص الذي قد يقترب من رسائل الكاتبة، وقد يبتعد أيضا عتها، ما يعيدني لفكرة إميل سيوران الذي يرى أنه «لمن شقاء المؤلف أن يتم فهمه»، لكن الفكرة التي قد تصلنا من عمل ما، ليست بالضرورة خاطئة، فالكاتب حين يكتب، يكتب وكأنه مدفوع بقوى خفية تحرضه على ذلك، وتلهمه طريقة التعبير عن هذه الحادثة ووصف تلك.
فالذي يقترب من شخصيات نورا ناجي في روايتها هذه يبدو له أن كل واحدة فيها عبارة عن مشروع رواية، فيما يبدو أن الكاتبة لا تميل إلى جعل القارئ يتعاطف مع شخصية بذاتها أو حدث بعينه، وإنما تشغله بالتفاصيل التي ركزت عليها في عملها هذا، ومن خلال تلك التفاصيل ندرك أن بطل رواية «سنوات الجري في المكان» هو المكان نفسه. تقول: «يصمت قليلا لحظات تمر وكأنها عشر سنوات، عشر سنوات من الثبات في المكان، عشر سنوات من المشي في المكان، عشر سنوات من الجري في المكان حتى يرد بالموافقة». ووحده المكان ما يحفظ تاريخ كل من تعاقب عليه، فهو -بخلاف الإنسان- لا يمتلك ذاكرة انتقائية تجيد برغبة خاصة الاحتفاظ بما تود الاحتفاظ به.. ذاكرة المكان لا تعرف التحايل، كما أنها لا تشيخ أبداً، فكل حادث جديد يعيد لها تواريخ قديمة، لذا حين نركز مع فكرة العنوان يتبادر إلى الأذهان ميدان التحرير في مصر وما شهده من أحداث مفصلية غيرت الكثير منذ ذلك الوقت إلى الآن.
وهذا من بين التأويلات التي قد تفك رمزية العنوان بشكل عام، ولكن من منظور خاص نقف مع هذه الرواية وقفة صريحة مع النفس، فنص نورا هذا يستفز بعض الأسئلة الإنسانية التي لا نجرؤ على طرحها في الحالات العادية، أو لربما لم نفكر من الأصل في طرحها.. أسئلة مؤلمة.. ففي مقطع عن موت القطط تقول: «كل القطط الميتة ماتت دون تشريح، لا نقف أمام قط ونقول: مات من الجوع.. مات من البرد.. مات دهساً بعجلات سيارة في الظلام.. مات دون أن يتوقف الكون.. مات دون أن يشعر أحد بالذنب».. لتعود مرة أخرى للقول: «كل الجثث التي كتبت تقاريرها، ماتت دون أن أشعر بالذنب.. الجثث المتصلبة الملقاة في الشوارع.. جثث المشردين، والأطفال، والزوجات المعنفات، والأمهات المتروكات، والرجال المهشمين.. كل الجثث في الثلاجات، الملتفّة بأسمال تحللت قبل أصحابها، تعيش معي، تطاردني في أحلامي.. لم تتلاشَ... لم يخفِها الموت... كل الجثث.. كل القطط الميتة».
قد تعيدنا رواية «سنوات الجري في المكان» لقراءات سابقة، وأحيانا أخرى نتدارك عن طريقها قراءات لاحقة، لكننا في الأخير سندرك أنها رواية تجريبية تقف مطولا عند تجارب الحياة المؤلمة، وهي دون شك تجارب صادقة عن الإنسانية المجزأة، أو تلك التي نجزّئها ونخيط لها ثيابا بمقاساتنا، لكننا حين نركب أجزاءها كما نركب أجزاء لعبة البازل نتأكد من حقيقة أن الإنسانية غير قابلة للتجزيء.
يقول الكاتب الروسي أندري تاركوفسكي: «التعليم للتفكير، الفن للشعور»، وأعتقد أن رواية نورا ناجي من الروايات التي تركز على الفن ليس فقط للشعور بل أيضاً لمواجهة شتى ضغوطات الحياة، ومواجهة أي أمر يجعل من حياتنا محض أرقام تكرر نفسها ولا تتحرك من مكانها، لذا يرى الشاعر والكاتب الألماني برتولت بريشت أن الفن «ليس مرآة قابضة على الواقع، بل مطرقة تساعد في تشكيله».
ولهذا ربما قدمت نورا ناجي روايتها من زاوية الفن بوصفه «نمطا آخر من الإدراك» على حد تعبير الفيلسوفة البريطانية آيريس مردوخ، ومن خلاله استحضرت سيرة جيل خلال عشر سنوات بداية بثورة يناير وصولا إلى جائحة كوفيد، أي أن الكاتبة أمسكت بملامح التغير التي وصمت جيلها خلال عشر سنوات من الزمن. ولم تكتفِ بهذا القدر، بل جعلت للحواس سيرة، إذ نقرأ في الرواية حكاية خمس فنانين فقدوا حواسهم إثر فقدانهم صديقَهم بالثورة، وهذه الفكرة تحديدا عبّرت عنها الكاتبة بجملة قد تكون من وجهة نظري الأكثرَ تكثيفا، والتي يمكن من خلالها تلخيص مضمون الرواية، تقول: «الجري في نفس المكان هو تلخيص الحياة، مزيج ساحر من الثبات والحركة."