محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

صلاح فضل والأبوة النقدية

No Image
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ
د.نادية هناوي (ناقدة عراقية) ليسوا كثيرين أولئك الآباء الذين أسسوا لتقاليد أدبية ونقدية من خلال كتاباتهم ومشاريعهم وتجاربهم التي على هديها سار اللاحقون متابعين أو مطورين. وإذا كان للتطوير أن يمد في قوة البناء الذي شيده هؤلاء الآباء المؤسسون، فإن للاتباع أن يديم حيوية التأسيس الذي عليه ستشيَّد الأبنية. وتختلف هذه الأبنية، فمنها ما هو علمي محض، ومنها ما هو أدبي محض، ومنها ما يجمع العلم بالأدب، لكن التقليد يظل واحداً بوصفه منهجاً أو طريقاً شقه مبدع أو عالم وسُمي باسمه أو ارتبط به بشكل مباشر أو غير مباشر.

ومن نافلة القول إن التأسيس ليس مثل البناء، لأن الأول يحتاج أدوات تحفر في أرض بكر لتضع أوتاد بناء جديد يغرسه المؤسس صحيحا كي يمكن البناء عليه والإضافة إليه. ولا يقتصر التأسيس على لغة ما أو ثقافة شعب معين، بل إن الآباء المؤسسين موجودون في كل زمان ومكان يعطون للحقل الذي يؤسسون فيه حيوية ويجعلونه مطبوعا بهويتهم الخاصة والمميزة.

وفي ثقافتنا العربية تاريخ طويل ضارب في القدم لآباء مؤسسين، شهدت العصور العباسية منهم كثيرين نقادا وأدباء وفلاسفة وعلماء، وحفلت تأسيساتهم بالاهتمام التنظيري والتطبيقي.

ولقد شهد عصرنا الحديث نهضة نقدية قادها الرعيل الأول المؤسس ومن بعدهم جاء جيل من النقاد، منهم من كان مؤسسا للحداثة أو للألسنية أو للأسلوبية، كالدكتور صلاح فضل الذي رحل إلى الرفيق الأعلى مؤخرا لكنه جمع مع التأسيس النقدي أمرا آخر يحاذي النقد ويجاوره وهو الأبوة النقدية التي كان فضل مؤسسا لها وكانت مقرونة بمن شملتهم رعايته الأبوية.

ونعني بالأبوة أن يتبنى الناقد الادبي شبابا في مقتبل أعمارهم ويساعدهم بقصد الأخذ بأيديهم عبر تدريبهم وتقويم كتاباتهم أو مساعدتهم في أن يكونوا فاعلين أو مراقبة أفعالهم وتزويدهم بالخبرة لولوج عالم الادب والنقد في أقصر وقت وبأقل مشقة. وبالطبع لا ينوء بحمل هذه المهمة إلا من وجد دوره النقدي يقتضي منه أن يكون مثالا لمريدين يجدون فيه أبا جديرا بأن يكون منطلقا لهم في اشتغالاتهم النقدية ومطامحهم أيضا في الظهور والانتشار.

فالأبوة غير متاحة إلا لمن تمتع بالصورة المثالية للناقد الأب. كأن يكون مساعدا لهم وقريبا ممن يرعاهم لا يبخل عليهم بالمشورة ولا يقتر عليهم بما يقدمه من خبرة. وعادة ما يكون هؤلاء إما طلابه أو أصدقاءه أو ممن يصطفيهم من داخل الوسط الادبي أو الثقافي. وعددهم في الغالب لا يتجاوز عدد أصابع اليد، فالطاقة على الرعاية لا تقدر على أكثر من ذلك وبما يضمن للأب العدالة بين من يدعمهم ويوجههم وصولا إلى تماهيهم مع صورته الأبوية.

وهم بالمقابل سيكنّون له الاحترام ويؤدون ما ينبغي عليهم تأديته كبنوة أدبية وثقافية بها يؤكدون انضواءهم تحت جناح أبوته والتزامهم بكل توجيهاته وإرشاداته فلا يخرجون عليها، لا احتراما للأب المتبني فقط وإنما استجابة لنداء الرغبة في أن يكونوا مثله وبشكل سريع وقياسي، ومن دون الأب سيطول عليهم الوقت في الاعتماد على أنفسهم في تحقيق هذه الرغبة.

وإذا كان حال الأبوة مفروغا من أهميته، فإن حال البنوة يظل موضع نقاش ومراجعة، لا من ناحية مساهمة النقاد الجادين في تثبيت دعائم ما بناه الأب الناقد أو الميل عنها أو المراوحة في المكان نفسه من دون أن يقدموا أو يؤخروا في البناء أي شيء، وإنما من ناحية ما يمكن للبنوة النقدية أن تقدمه للأبوة من التمسك بها ودعمها الى آخر مشوارها.

ولا تبدو هناك جذور لهذه الظاهرة عند الرعيل الأول من نقادنا المؤسسين الذين كانوا لا يألون جهدا في ترسيخ التقاليد النقدية وأهمها الجدل الذي كان يدخلهم في نزاعات ومماحكات وحتى معارك أدبية بها يدافعون عن مشاريعهم الفكرية، فكيف بعد ذلك تكون لهم عباءة بها يغطون على أبناء يرعونهم دون غيرهم؟!

وخلال العقود الاخيرة أخذت الأبوة النقدية تتمظهر هنا أو هناك بدرجات مختلفة وعلى مستوى فردي في العموم.. ولم تتضح أبعادها جلية إلا برحيل الأستاذ الدكتور صلاح فضل. هذا الرحيل الذي ما أثار ردود أفعال كتلك التي أثارها رحيل قامات لا تختلف في أهميتها عنه، ورحلت قبله بمدد متقاربة. فهل يكون السبب عدم معرفة الأوساط العربية حقيقة ما تركه الراحل من منجز نقدي زاخر؟ أم إن رحيله كان متوقعا برحيل مجايلين يشبهونه ومن ثم كانت الإثارة بمستوى معتاد وطبيعي؟

قد تتعدد الأسباب لكن النتيجة واحدة وهي أن رحيل هذا الناقد لم يلقَ صدى في الوسط النقدي يكافئ ما تركه من منجز فكري وثقافي وأدبي. وبالطبع ليس وراء الأمر تدبير أو تحشيد معينان، بل هو مرتهن بالرأي العام المتشكل بتلقائية من المجموع النقدي الذي منه تتشكل النخب الثقافية والأدبية.

ومعلوم أن هذا الرأي لا تشكله المراكز الثقافية المتنفذة وحدها وإنما تشترك فيه الهوامش الثقافية، وكلما كانت فاعلية هذه الأخيرة كبيرة، بدا ثقلها في تشكيل الرأي العام أبعد أثرا وأكثر أهمية.

ولقد نظر الرأي العام إلى الدكتور صلاح فضل بعينين اثنتين؛ الأولى رأته هَرَمَا نقديا والأخرى رأته أبا راعيا. وأثّر اجتماع الأبوة بالهرمية على الرأي العام فلم يكن تفاعله مع رحيل الناقد بالمستوى المطلوب. ولقد زادت رعايته الأبوية لنفر -ممن أدخلهم تحت عباءته فتضخم حجمهم بمجرد وصايته عليهم- من هرمية صلاح فضل كناقد بيده الحل والعقد.

وإذا لم تكن البنوة لتضيف إلى صلاح فضل شيئا مهما، فإن أبوته أضافت إلى من تبناهم شيئا كثيرا فعَلا شأنهم بعلو شأنه وتميزوا بتميزه وتوسع نطاق شهرتهم باتساع مساحات شهرة صلاح فضل الإعلامية والثقافية. ولما انخرط الأب في المركز، انخرط المرعيون بانخراطه وصاروا في واجهة أي فاعلية نقدية أو بحثية يتخندقون مع الأب ويسيرون في تأدية الوظيفة النقدية على هدي مشورته.

هكذا صارت الأبوة ظاهرة، وأخذ نقاد معينون يتبعونها واجدين في أنفسهم آباء حتى لمجرد أنهم يُدرّسون أبجديات النقد الأدبي، ناظرين إلى نفر من طلابهم على أنهم أبناء ينبغي الأخذ بأيديهم إلى شاطئ النقد الآمن سالكين سبيل الراحل صلاح فضل. وبعضهم تكلف النقد كي يتمظهر بقناع صلاح فضل الأب الراعي. ويشهد الوسط الثقافي العراقي اليوم وجود نقاد أكاديميين يتبنون بين الحين والآخر دارسين أدبيين، يتتلمذون على أيديهم لأسباب شخصية أو غير شخصية.

ولا بد لهؤلاء أن يلازموا (الأب)، فهو الذي سيعرّفهم بأهل النقد، وهو وحده الذي يفتح لهم عوالمه ويعرفهم على مساراته التي لا يستطيعون السير فيها من دونه. وهؤلاء بدورهم يعرفون جيدا أنهم بمجرد ملازمتهم له سيكونون معروفين بشكل سهل لأن الأبوة هي التي تمهد لهم الطرق وتدخلهم عالم الأدب من أوسع ابوابه. وحتى بعد الدخول سيظل الأب يرعاهم ولن يتخلى عنهم كنوع من المعاهدة المصيرية التي تمد في قوة الطرفين؛ الأب ومن تبناهم.

ولا مناص من أن تصبح البنوة والأبوة وجهين لعملة واحدة، فيها الأب يريد للأبناء أن يمثّلوا خطه ويجاروا نهجه ويخضعوا له، بينما يريد الأبناء أبا يحميهم ويوفر لهم ما باستطاعته أن يوفره من مستلزمات ومقتضيات. ومن ثم لا تحضر الأبوة إلا معها بنوتها، ترافقها في حلها وترحالها، لكن ليس الظاهر كالباطن وأنّى لمن لا تتوفر فيه شروط الناقدية أن يكون ناقدا بمجرد مرافقته ناقدا أتقن أكثر من لغة وهضم العربية مثلما هضم نقد أدبها وتعرف على مناهج هذا النقد وساهم في تطويرها وضخ الحياة في تطبيقاتها.

ومن المشروع أن نتساءل: ما المنافع التي يمكن للثقافة العربية أن تجنيها من وراء ظاهرة الأبوة النقدية؟ وما الذي يريده الناقد من وراء الأبوة التي لن تسفر عن صناعة نقاد ما لم تكن فيهم الاستعدادات والمؤهلات التي تجعلهم فعلا نقادا؟ وهل تـوجد للأبوة النقدية شروط ومؤهلات؟ وما الذي يفرض على الناقد أن يكون أبا راعيا؛ أهو الشعور بالوصول إلى الغاية القصوى في النقد، أم هي المسؤولية في تبني من لا طاقة تعينه على أن يكون وحده مبدعا؟ وما المعيار الذي يعطي للناقد الحق في تبني هذا دون ذاك؟

لا خلاف في أن لأيّ ناقد أدبي رغبة في أن يكون معلما وصاحب مدرسة بما أنجزه من كتب وأبحاث، لكن الذي لا يختلف عليه اثنان هو أن النقد لا تكفيه المدرسية ما لم يكن هناك استعداد فطري يملي على المرء أن يكون ناقدا.

ولكن ماذا عن الآخرين الذين غدوا نقادا ولم يكن لصلاح فضل أيّ فضل عليهم؟ هل ينظرون إلى أبوته بمنظاره الأخلاقي الذي به نظر إلى من تبناهم وقدّم لهم خبرته وساعدهم على شق طريقهم؟ هل ينظر النقد المصري الى أبوة صلاح فضل النقدية على أنها ظاهرة ثقافية يجب أن تتكرر؟

عموما، تظل الأبوة النقدية فاعلية ذات مردادت تعود بالنفع على الاثنين؛ الناقد المتبني والنقاد الأبناء، لكنها في الوقت نفسه لا تضيف تميزا بسبب طبيعتها الإخوانية فلا تصنع موهبة ولا تضيف اكتسابا. ومهما تتلمذ أحدهم على يد ناقد أب فلن يغير ذلك من حقيقة ما لدى التلميذ من فطرة واكتساب، أي أن وجوده قابعاً تحت عباءة أبيه لا يعني أنه سيكون ناقدا أدبيا، فقد يكون وقد لا يكون.

إننا لا نتوقع لهذه الظاهرة -التي توضحت برحيل الناقد صلاح فضل- أن تتسع، بدليل ما أثاره رحيله من رأي عام فلم يؤبنه سوى من رعاهم نقديا وبعض الشخصيات العامة.

وإذا بحثنا في نقدنا الراهن عن ظاهرة الآباء النقاد فلن يصعب علينا إحصاؤها لمحدودية من يتمثل هذه الظاهرة وينقاد إليها. ويستلحق بذلك أيضا قلة الذين ينضوون تحت عباءة الأب الناقد. وقد لا نغالي إذا قلنا إن تاريخ النقد الأدبي لن يهتم مستقبلا بالتأشير على ظاهرة الأبوة النقدية، بل سيظل يهتم بالتأشير على الآباء المؤسسين.

محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF