محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

سردية تفكّك فلسطين وتشكّل عالَمَها اليوم

»رام الله« لـ عبّاد يحيى..

No Image
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ
إسلام خنيش (ناقد جزائري) يروي لنا عبّاد يحيى في رواية «رام الله» قصة هذه المدينة العريقة، التي شهدت آثارا إنسانية مختلفة. رام الله تستحق الاستكشاف والتعرف على معالمها، وهذه الرواية تريد لنا أن نتعرّف عليها بشكل دقيق، بتشكّلِ المكان والزمان والشخوص، ومن أجل هذا قد وظّف الروائي في هذا المسار تقنية تصوير هذه المدينة بين زمنين في أواخر القرن العشرين وفي سنة 2017. نلمحُ منذ البدأ تباينا في مسارات الرواية، ففي قصة عائلة النّجار، التي سكنت رام الله في القرن العشرين، يركّز عبّاد على المجتمع القبلي والعادات التي تكرّسه، أما في القصة الثانية المعاصرة لنا والتي يكون بطلها الدكتور عماد العايش، فهو يقوم بإيلاج مواضيع راهنية تتمخّض عن شعور الحبّ والخيانة والحياة المختلفة بطبوعها.

ينطلق عبّاد يحيى في روايته هذه من موت ريما، فيعود بالفلاش باك بواسطة الزوج عماد العايش كي يُظهر لنا تاريخ مدينة رام اللّه، يتشكل السرد فصلا بعد فصل ولكن في الأخير سيعود للحاضر وقد جعلنا أمام حياة الدكتور عماد وزوجته. ستدهشنا كيفية التحوّل في مسارات الرواية كما سيُدهَشُ عماد حول حياة زوجته قبل موتها، فنعيش بذلك دهشته أيضا، فهو يخوض في ثنائية الرغبة والحبّ التي سنجدها الفعلَ الرئيسي فيما سيكون خيانة العلاقة الزوجية، بل الحبّ، إذ إنّها علاقة بُنيتْ على الحبّ، لا عن زواج تقليدي. من هنا سيبدأ البحث المقلق لعماد العايش عن حقيقة زوجته وهذا سيأخذنا لمنزل عائلتها في مدينة رامّ الله، وسندخل العتبات المختلفة لذلك المنزل التي تقول كلٌّ منها قصة منذ أن تمّ بناء هذا المنزل.

لقد كان ابراهيم النّجار المؤسس الأول، فيما تذكرهُ الرواية، لهذه العائلة، وقد كان له ابنٌ وحيد يسمى بطرس النجار قد ورث عنه خيرا ومالا وفيرا. هذا الأخير سيكون مفجّر السرد في هذا النّص الروائي الطويل. ويضربُ لنا الروائي به بشكل حاذق وفعّال كنايةً عن الفلسطيني الذي يبحث عن وطنه ولكنّه لا يستطيع الوصول إليه بكل حرية، فحينما كان يبحث عن عامل كي يبني بيته لم يجد بنّاء كي يقوم بعملية البناء، يجول كل القدس فيصير محتارا، ويقول فيه الراوي: «هو لا يريد شقّ سكة قطار من الأناضول حتى سهول حوران... يريد دارا متينة كوتد في صخر، ككهف انبجس من جوف جبل».. هذه الدار التي لم تعد موجودة للفسلطيني اليوم.

في عتبات السرد وتطوّر الأحداث سيركز عبّاد يحيى على ذكر المأساة التي تسبّب بها الحكم العثماني للشعوب التي حكمها، وهنا يتحدّث عن رام الله وكيف أرغم الجيش العصملي (جيش الدولة العثمانية) أبناءها خوض حرب ليست لهم، مما جعل العديد منهم يأخذ طريق البحر مهاجرين وهاربين كي يختاروا «قدرهم بأيديهم إن كان يمكن لهم ذلك قبل أن تختار لهم الدولة أقدارهم».

فصلٌ مهم في رواية «رام الله»، لأنّها تريد قول التاريخ من دون أي انحياز.. الوجود العثماني في «العالم الإسلامي» آنذاك كان طغيانا في مراحل كثيرة، والعسكر العثماني تحت قيادة الدولة قام بتجريد السكان المحليّين من حريتهم وغَبَنَهم، وقد عاش هذا الاستبداد كلٌّ من المشرق ودول شمال إفريقيا، فرغم ما يمكن أن نقوله عن محاسن الدولة العثمانية إلاّ أنّ سياستها كانت مستبدّة في حقِّ الشعوب التي أقسمت بحمايتها تحت لوائها، ويجب أن لا ننظر للتاريخ بشيء من العاطفة، بل يجب طرح القضايا كما كانت وكما آلت إليه الأمور بعد ذلك، وهذا ما تحاول رواية «رام الله» تبيانه بشكل كبير، فمن هذا المنطلق بدأت حملات هجرة الشباب الفلسطنيين لأميركا وترك بلادهم، ولسخرية الواقع وعبثه يقول «مستر مل»، أحد الأساتذة في مدرسة خليل النّجار: «هل تعلم، أفكر أنّهم لا يدركون قيمة وجودهم في هذه الأرض، لا يعرفون حقيقة أنّهم يعيشون في أرض الكتاب الذي نقضي أعمارنا نعلمهم إياه»، وهل يا ترى ودّ أولئك الشباب الهروب من بلدهم لولا الحكم المفروض عليهم؟ وحينما سقطت الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى تُركت فلسطين في فوضى أمام الأطماع الاستيطانية، أين وَجدت بريطانيا مجالا مفتوحا لفرض الانتداب وسلطتها على البلد، وكيف تأتّت منه كل الأوجاع المتراكمة اليوم.

سيقوم الروائي بتسليط الضوء على تاريخ فلسطين، هذا البلد المُفترَس من طرف ضباع هذا العالم، وعلى ذاكرة مشوهة في سبيل إلقاء الغبار على الأعين، ففي فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، كانت فكرة تأسيس وطن قومي لليهود حاضرة بقوة في هياكل الدولة حينها. تم التأسيس لهذه الفكرة المتضمَّنة في وعد بلفور بشكل نموذجي وتحققت سنة 1948 بإعلان قيام «دولة إسرائيل» في الأراضي الفلسطينية. في الرواية تحيلنا مركزيّة عائلة بطرس النجار في مدينة رام الله للمرور على هذه الأحداث دقيقة العنايةِ والتي ساهمت بالكثير في توطين الاستعمار الصهيوني فيما بعد، حيث تمّ التمهيد لتوطين اليهود في البلد وإنشاء دولة الصهاينة فيما بعد بشكل مباشر، نقرأُ في هذا الصدد كلام أحد الأساتذة الفلسطينيين حينما يقول: «اليوم نسبة اليهود في فلسطين تقترب من ثلث عدد السكان. لا أحد يدري كيف ستكون السنوات القادمة. مدارسهم أفضل ومجهزة بكل أدوات العلم الحديث، ويترك لهم الإنجليز فعل ما يحلو لهم، لا يتدخل أحد في مناهجهم وما يفعلون. أما المدارس الوطنية ففقيرة وبلا أي دعم».

أمّا حينما تقوم دولة الصهاينة سنة 1948، فيتحدّث الروائي عن حالة التيه والغربة التي عاشها الفلسطينيون جراء الغزو الإسرائيلي، فقد تمّ تهجير العديد من السكان لرام اللّه أين ستغدو مقر الحكم الفلسطيني فيما بعد، ولحدّ الآن. العديد من سكان رام الله الأصليين ذهبوا في رحلات هجرة وعادوا بعد ذلك ليجدوا منازلهم قد تم أخذها من طرف إخوانهم، فغريزة البقاء كانت الأشرس بينهم، وما زاد الطين بلّة هو صدور «قوانين الإيجار الأردنية» التي مكّنت المستأجرين من أخذ المنازل المستأجَرة مدى الحياة. هنا سيتساءل الروائي عن هذا المأزق بشكل ذكي: «هل سيشكو أصحاب الدور فلسطينيين مثلهم للحاكم العسكري الإسرائيلي؟ ألن ينفذ الإسرائيلي من النزاع إلى السيطرة على الدور؟ هل تحتمل هذه الأرض رؤية إسرائيلي يطرد فلسطينيا من بيت ويسكّن فلسطينيّا آخر فيه؟ ماذا يُسمى الذي يستعين بالاحتلال؟ لن يهم من صاحب الدار في المشهد الفاقع». سيكون الفلسطيني هنا في ورطة أخلاقية ضدّ ضميره وتراب وطنه إن قام بالشكوى عمّن سلب منزله حينما لم يكن موجودا! ويكون بذلك الفائز الأكبر هو المستوطن الإسرائيلي والسياسة الصهيونية التي تسرّبت للقاع بشكل تدريجي.

"الهزائم الشخصية ذابت في الهزيمة الكبرى، لم يقل أحد لغيره لقد كنت مخطئا، فالكل مخطئون»، في هذا المقطع من الرواية تتكدّس الخيبة حتى تصير جبلا يصعب هدمه، جبلا ما يزال شاهقا ليومنا هذا، كل الخيبات والهزائم تسقط أمام «الهزيمة الكبرى» (عام 1948)؛ هزيمة وطن وشعب، وحقارة عالم القوى الإمبريالية، سيأخذ خليل حقيبته ويعود لأميركا، متجاهلا خيبته الشخصية أمام الخيبة الكبرى.

رواية «رام اللّه» لا تجذبنا فقط من خلال تأريخها لهذه المدينة بل تجذبنا أيضا من خلال نظرتها للحبّ، إذ أثّث عبّاد يحيى (الراوي) روايته بعلاقات الحبّ الجميلة والمؤلمة بين شخوص الرواية، ولم تنتهِ أيّ منها بالسعادة، ولعلّ هذا يعود لرؤية الروائي في مصير السعادة المعطّل دوما في فلسطين.. هكذا تثيرنا علاقة سالم مع ماري، فهي علاقة شائكة تتمخّض من فروقات اجتماعية وتفكير مختلف، لكنّ قلبيهما يلتقيان، ففي حين يمدّ سالم العلاقة بكل أحاسيسه، تلعب ماري دور اللاّمبالية، وبعد ذلك ستنقلّب الموازين، ففي حين ستنتظره عائدا من رحلته، سيكون شغفُه بها قد ذبُل ولم يعد يراها بتلك النظرة الأوّلية، ويكون الخاسر في كل هذا رام الله والحبّ الذي يضمره كل منهما للآخر. يأتي كل هذا في خضم تفكّك رام اللّه وتحوّلات كثيرة فيها، من حرب البراق لتفجير الآرجون الصهيونية لحرب عالمية ثانية قد وصلت.

نقرأ هذا النّص ونلمس أن عبّاد المثقف يطرح تساؤلات عن الوضع في فلسطين، فأسئلة شخوصه تعبّر عن إشكاليات راهنة يجب الخوض فيها من طرف كل فلسطيني وكل من يؤمن بعدالة هذه القضية: «أما جميل فمن اختلاط شعوريه، الغيظ والكرب إزاء حال رام الله، عادت فلسطين تنتعش في وعيه قضية حياة لا يجد في رأسه حيالها إلاّ سؤالا واحدا: ماذا سنفعل؟». في نهاية الرواية سيعي القارئ نجاح هذه الرواية، وفي اعتقادي أهمّ أُسُسِها هو أنّ عبّاد يحيى نجح في توثيق رام الله بأحداثها وشخوصها في روايته هذه، ولن يتذكّر القارئ لها رام الله من الآن فصاعدا إلّا بصورة عائلة النجار وما قرأهُ فيها.. هي عظيمة الروايات التي تجعلك تتذكر الأماكن من خلال شخوصها وكذا فعلَ بنا عبّاد يحيى، كما فعل دوستويفسكي وجعل أروقة موسكو لصيقة براسكولينكوف وأبطال رواياته.

محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF