محمد رفيع
تحتاج الفكرة العربية، فكرياً وسياسياً وروحياً، إلى إعادة تقييم. فما تعلّمناه في المدارس، عن هذه الفكرة، شيء وواقعها وتاريخها، في البلدان العربية، شيء آخر. التطبيقات السياسية والثقافية للفكرة العربية فشلت، أو هُزمت، في مرحلة الاستقلال، أمام الدعوات الأخرى المعادية لها. وفشلت أيضاً في حل مشكلات الثقافة والهوية والحرية للمكوّنات العرقية والدينية الاساسية لشعوب الامة العربية والجماعات المكوّنة لها.
ونجحت القوى الأجنبية، التي لم تبتعد كثيراً عن شواطئ الامة، في تهشيم عناصر الفكرة العربية على أكثر من مستوى. فعلى صعيد اللغة العربية، نجح أعداءُ الفكرة العربية في تشجيع اللهجات المحلية، وتحويلها إلى عامل هدام ضد اللغة الفصحى وسيطرتها. وتحوّلت تلك اللهجات، وما تزال، إلى المحتوى الفعلي لدعاة القوميات اللبنانية والمصرية والبربرية والكردية وغيرها.
قبل ستّة عقود، على الأقل، كانت ساحة اللغة العربية هي الميدان الأوسع للصراع والخلاف بين دعاة الاتجاه الشرقي والمؤمنين بالعروبة والإسلام، وبين دعاة الاتجاه الغربي المؤمنين بالقوميات المحلية والإقليمية، خصوصاً القومية المصرية. فاللغة بما تحمله من عوامل تقريب بين النفوس والثقافات، هي أحد أهم عوامل الفكرة العربية والناظم الأساس لتلك القومية.
في التاريخ القريب، كانت مصر هي أهم ساحة يجري فيها الصراع على مستوى اللغة بين دعاة الاتجاهين الشرقي والغربي، أو بين الفصحى والعامية. وكان قاسم أمين وحفني ناصيف أول دعاة القومية المصرية، الذين طالبوا بفسح المجال أمام اللهجات العامية لتحل محل الفصحى (1908). غير أن الدعوة لم تتطور إلا على أيدي أربعة من كبار القوميين المصريين، وهم؛ طه حسين، احمد لطفي السيد، أحمد أمين، وعبدالعزيز فهمي.
في كتاب «الفكرة العربية في مصر»، وهو كتاب نادر لأنيس صايغ (1959)، يستعرض فيه تاريخ تلك الدعوات، التي تشكل الآن أساسا لما يجري من استباحة ثقافية ومعرفية لكل الشعوب العربية، ولكن بوسائل أكثر تقنية وفاعلية وتأثير. فقد طالب لطفي السيد بتعميم اللهجة المصرية المحلية، لانها لغة الشعب، ولأنّ الفصحى أعجز من أن تؤدي الأغراض الأدبية. أما طه حسين، فقد طالَب «بتمصير اللغة العربية» في مصر، لأنّ الإقليم أقوى من اللغة (!)، وقام بوضع دراسة حول الموضوع رفعها إلى مجمع فؤاد الأول للغة العربية (1943).
الإنجليز، الذين كانوا يحتلّون مصر، شجّعوا الظاهرة منذ ظهورها، وأيّدوا دعاتها تأييداً مطلقاً، وكذلك فعل الفرنسيون في لبنان مع «الشاعر سعيد عقل». ووضع «بلتيمور»، وهو أحد القضاة الإنجليز في محكمة الاستئناف، كتاباً اقترح فيه إلغاء الحروف العربية واستبدالها باللاتينية، وإلغاء الفصحى واستبدالها بالعامية، وذلك في البلاد العربية كلّها، لا في مصر وحدها. كما قام السير «ولكوكس» بترجمة الكتاب المقدس إلى العامية، ودعا أقباط مصر إلى هجر الفصحى لأنّها ليست لغتهم.
أما سلامة موسى، وهو من أبرز دعاة القومية المصرية «الفرعونية»، فقد تبنّى ما جاء في هذين الكتابين، ونشره في مقالاته وكُتبه. ولعلّ في هذا النصّ، لسلامة موسى، ما يكشف بوضوح عن تلك النزعة، حين قال: »... ومما يُنقم على اللغة الفصحى أيضاً، أنّها تُبعثر وطنيتنا المصرية، وتجعلها شائعة في القومية العربية. فالمتعمّق في اللغة الفصحى يشرب روح العرب، ويُعجب بأبطال بغداد، بدلاً من أن يَشرب الروح المصرية، ويَدرس تاريخ مصر. فَنَظَرُهُ مُتّجه أبداً نحو الشرق، وثقافته كلّها عربية شرقية، مع أنّنا في كثير من الأحيان نحتاج إلى الاتّجاه نحو الغرب. والثقاقة تقرّر الذوق والنزعة، وليس من مصلحة الأمة المصرية أن ينزع شبابها نحو الشرق. وإنّه لا نفع لنا، وللشرق أن ينزع هو إلينا، لا أن ننزع نحن إليه»(!)
ما يجري إنعاشه وإيقاظه اليوم، في النفوس والعقول والأذواق، هو ابن البارحة، أما الأفكار الداعية لموت الأمة ولغتها، والتي بدا أنّ فترة الاستقلال جرفتها، فها هي تطلّ من جديد، على هيئة تيارات ثقافية جارفة، بعد أن انكسرت في الأمة وقواها وتياراتها برامج الدعوة لوحدتها السياسية.
FAFIEH@YAHOO.COM