تناولت بالجزء الأول من دروس المونديال معاني الوطنية بروحها الحسي، بعيدا عن النظريات الكلامية التي يستخدمها البعض لأهداف مكشوفة، لأنها تعكس قالب الحقيقة التي تتغذى بشريان القلوب، وتسكن في الوجدان، لأجد اليوم صفحة وعبرة جديدة مستوحاة من الصفحات الكروية التي تجمع الشعوب، كما شاهدنا بشهر المتعة بمباريات كأس العالم في قطر الشقيقة، حيث الحقيقة بسقوط الكبار تباعا وصعود الصغار بنفس الوتيرة (كما يحلو للبعض تسميتهم)، سقوط مستحق وصعود مستحق بنفس الدرجة، فالاجتهاد هو الأب الشرعي للنجاح والتميز، والثقة هي الأم المرضعة ?لمواهب.
العديد من الفرق الكروية ذات الأمجاد السابقة والتي تتضمن في تشكيلتها نجوم الصف الأول على مستوى العالم وتلعب بأعرق وأقوى الدوريات العالمية وخصوصا في الدول الأوروبية الغنية التي تدفع بسخاء، نجدها وقد تساقطت بتتابع أثلج صدور المتابعين لاعتقادها أن النتائج محسومة أمام الفرق المجاهدة والمكافحة ذات الإمكانيات المتواضعة والتاريخ الحديث بالإنجازات، فهناك خروج مذل لأبطال كأس العالم عدة مرات من الدور الأول والثاني بعد اخفاق البعض بالوصول للتصفيات النهائية، وربما السبب الرئيسي لهذا الإخفاق المستحق هو الاستهانة بالفرق ?لمنافسة والإعتقاد بأن النتائج محسومة، لأنها تلعب على رصيد أمجاد انتهت صلاحيتها، متجاهلة وجود فرق منافسة تحفر ببردى التاريخ لصناعة مجد مستحق نتيجة الجهد والاجتهاد، فاللعب أمام الفرق الكبيرة لم يعد مزعجاً، بل متعة تمنح طاقة متجددة وتحديا ذاتيا بشكل مختلف، لنجد أن معظم الفرق ذات الأمجاد السابقة قد هُزمت وخرجت بجهود الفرق الأسيوية والأفريقية ذات العناصر التي تقاتل بجهد لصناعة المجد، فقد أمتعتنا هذه الفرق بأداء فردي وجماعي، وصنعت لنا ابتسامة حقيقية من القلب بالمهارات والنتائج، لتطوي صفحة جديدة من صفحات التاريخ ?أن اللعب على الأمجاد والسمعة قد انتهت صلاحيته، والميدان هو المكان الوحيد لإثبات الذات والصعود للقمة والمجد.
الاعتماد على رصيد العائلة والشخص والفريق كشهادة مناعة لضمان التفوق والنجاح أو فرضه بمعنى آخر كمُسَلَّم، والحصول على الولاء المطلق كمقدمة ونتيجة، قد أصبح عُرفا مودعا بمتحف التاريخ وبضاعة رخيصة لا ينمت تسويقها، فالأوطان تصنع العظماء في جميع مجالات الحياة، والتقدم ظاهرة لا يمكن تقييد حدودها أو حصر مساحاتها لأنها فضاء مفتوح، والأمجاد القديمة هي مُجرد فقرة تكتب بالسيرة الذاتية للفرد والجماعة، لكنها لا تعطي حق الإرهاب لفرض السيطرة والفوز بالمسابقة والمباراة، وربما التذكير بحال المنتخب الألماني الذي كان مرشحا للف?ز بكأس العالم، وقد سقط أمام الفرق المغمورة ليخرج من الدور الأول بالمسابقة، يقابله مقارنة ظالمة مع المنتخب المغربي، الذي استطاع باقتدار واستحقاق أن يدحرج دول الأمجاد الكروية واحدة تلو الأخرى بنتائج مذهلة متوقعة نتيجة الأداء الجماعي المقرون بعزيمة الفوز، دون شعور برهبة أو دونية، فحجز مقعدا متقدما بين الكبار في المربع الذهبي؛ نال تصفيق الجميع بأداء جماعي وأرهب جميع الفرق المنافسة التي استطاعت بذكاء إعادة حساباتها وخططها للتعامل مع الفرق الطموحة التي شاركت للفوز، وعلينا أن نتذكر أن طرفي المباراة النهائية للمون?يال؛ الأرجنتين وفرنسا، قد هزمتا بأدوار التصفيات من قبل السعودية وتونس؛ نتيجة تستحق الوقوف على أطلالها وتحليل لمعطياتها للفائدة من عبرها.
لا تختلف حياتنا اليوم عن واقع المونديال؛ العمل بروح رياضية وجماعية وتناسق، يضمن لنا النجاح والتقدم ونشر بذور السعادة والسلام في ربوعنا، بينما استخدام أمجاد الماضي بأنانية وتكبر، بضمان الولاء والظفر بالطموح هو سلاح ضعيف يقتل مستخدمه ببطء مع الحرمان، وربما التنافس في المرات القادمة في العديد من المجالات التي سيكون للشهادة والتحصيل أو صندوق الانتخاب كلمة الفصل، سنجد وعيا نابعا من الحرص الوطني على اختيار الكفاءات التي تستحق النجاح لنوصلها لمركز القرار، فالسمعة السابقة والدعم والثقل الذي ساند عبر القرون، لن يكو? جدارا حاميا من الإختراق والسقوط، ولنتذكر دائما أن الاستهانةَ بالخصم، سببٌ للإخفاق؛ الوعي حقيقة لا يمكن إنكارها وجيل الحاضر يتحكم ببوصلة المستقبل وللحديث بقية.