المتعة بمشاهدة مياريات النسخة الأخيرة من كأس العالم التي أقيمت فعالياتها في قطر بتنظيم محكم ودقيق، استحق العلامة الكاملة بجميع المؤشرات، شهر من المتعة يستحق التوثيق بعد عواصف القلق والخوف التي استحلت مساحة كبيرة من العمر في سنواتنا الأخيرة، ولكن الأهم أن هناك العديد من العبر التي تستحق الذكر لتشكل دستورا للأذكياء الذين يبحثون عن فرص النجاح للإنظمام لقوائم العظماء، ويمكنني القول إن ما سأسرده هو ملاحظات وقراءات شخصية، اجتهدت بتحليلها حسب قناعات ورؤية برسم الصحيح.
المعروف بجميع المسابقات الرياضية وغير الرياضية أن اللاعب الذي يسجل الهدف يحتفل بطريقته لتصبح شعاراً حصريا به عبر الزمن حيث ترتبط الحركة والقفزة على مستوى الفرد والفريق، شعور عفوي غير مبرمج، فصور العظماء كبيليه ومارادونا ورونالدو وميسي ونيامار وبمبييه وغيرهم خالدة وتُقلّدْ، ولكن هذه الصورة كانت مغايرة للمألوف عندما سجل اللاعب السويسري بريل إمبولو هدف الفوز في مرمى الكاميرون؛ بلده الأصلية، حيث بدى الحزن والأسى، دون أية اشارة لفرحة أو نجاح، بل والأدهى مشاركة زملائه له هذا الحزن تقديرا للاعب دولي متميز يشكل مركز قلب الهجوم للفريق الوطني، والعبرة من هذه الملاحظة أن الانتماء الوطني دائما محفورٌ في القلب للبلد الأصلي مهما فرضت الحياة من ظروف الهجرة والتنقل، فهذا اللاعب حُرم من فرص استغلال موهبته الكروية في بلده ووجدها في سويسرا التي منحته الجنسية والتسهيلات التي أهلته للمشاركة بمنتخبها الوطني، فكان خير سفير ومنتم، وسببا رئيسيا لإرعاب الفرق المشاركة، لكنه، لم يرض أو يفرح لهزيمة بلده الأصلي بسببه؛ روح الانتماء تتجلى بتلك اللقطة التي رسم فيها كشرة الحزن وتأنيب الضمير؛ لقطة فيها عبرة ودرس، فهناك سوق القدر للبعض ليكون عطاؤه خارج وطنه.
بصورة مطابقة تعكس روح الوطنية والحنين للبلد الأصلي، فقد شاهدنا اللاعب الدولي الأمريكي تيموثي ويا،، وبلده الأفريقي الأصلي ليبريا بل ووالده هو رئيس الدولة الذي حضر خصيصا إلى قطر لمتابعة مباريات المنتخب الأمريكي لمشاهدة ابنه، اللاعب المميز ويشغل مركز قلب الهجوم، فقد كانت فرحة الأب والإبن بنفس الدرجة عندما سجل اللاعب هدفا تاريخيا بمرمى المنتخب الويلزي، حيث عبر اللاعب عن فرحته متوجها للمنصة التي يجلس عليها والده؛ رئيس الجمهورية، ويبادله عن بُعد؛ نغمات فرحة بسيمفونية أفريقية راقصة ولا أحلى والتي تعتبر تعبيراً عفوياً عن النجاح وروح الإنتماء الوطني للبلد الأصلي الذي منح دفء الحياة ونفس العمر، بالرغم من الظروف التي لم تسمح بترجمة الإمكانيات وتسببت بهجرة قصرية أو طوعية، بحثا عن فرصة تسمح بترجمة الطموح، وهي بالتأكيد الوسيلة الأقصر لتحسين مستوى الدخل الذي يسمح بالحياة الكريمة لبناء عائلة فاعلة تتماشى وطموح الفرد.
هناك ملاحظة مهمة، يجب ذكرها والتركيز عليها لأصحاب القرار والمخططين للمستقبل، وتتمثل بأن معظم المواهب الرياضية بجميع المنتخبات الوطنية المتميزة والمشاركة بنهائيات كأس العالم وبالدوريات الأوروبية هم من أصحاب البشرة السمراء؛ القارة الأفريقية المنتجة والمصدرة للمواهب الرياضية بجميع أشكالها، والتي يجمعها عامل مشترك يتمثل بعدم اتاحة الفرصة لهذه المواهب في بلدانها الأصلية، فتضطر للهجرة للبحث عن فرصة، حيث تحتضنها الفرق الرياضية الكبيرة الإسم والسمعة، وتصنع منها نجوما، بل تصقلها وتبث فيها روح الإبداع والعطاء دون التدخل أو التأثير على الإنتماء الوطني الذي يمثل هيكل الشخصية الصادقة القادرة على العطاء بدون خوف أو تردد، أو اتهام بخيانة، فالوطن يسكن العقول، وتروى حدائقة بدماء القلوب التي لا تتوقف، بل وتورث حبا وانتماء؛ فيها الدفء والأمان، وربما أننا في الأردن ننتمي لهذه الفئة البشرية التي تحافظ على الوطن وسمعته أينما أخذته الرحال وباي صورة؛ الشماغ الأحمر والكوفية عنوان، والمنسف يتصدر المائدة وللحديث بقية.