الرأي الثقافي

عبد العزيز المقالح مجدداً

تمتاز المنجزات النقدية العربية المعاصرة بمميزات تجعل القراء، متخصصين وغير متخصصين، في حيرة من تحديد وظيفة الناقد الأدبي. ولعل في مقدمة الأسباب الداعية لذلك اضطراب الناقد المعاصر في تحديد طبيعة المهمة التي يقوم بها، والمنطلقات التي يستند اليها في ولوج عالم النقد اليوم، وكان من تراكمات تلك الحال أن شهد النقد العربي المعاصر بعض القطيعة لا مع القراء، بل مع بعض المبدعين أحيانا من الأدباء شعراء وكتابا وقصاصين، فما عادوا يثقون بوظيفة الناقد الأدبي فلا الشرح ولا التحليل ولا الحكم ولا التقويم من مهمات الناقد المعاصر، ولا رصد مواطن الجمال وتحديد نقاط القوة والضعف في النتاجات الأدبية من سماته.

ويبدو أن التفاوت بين النظرية والتطبيق في الفعل النقدي هو الذي ولّد ما أصطلح عليه بالوظيفة في النظرية الأدبية. والوظيفة من المصطلحات الشائعة في الخطاب النقدي المعاصر، وهي تشير إلى الاختلاف المنهجي في صياغة المصطلح وإنتاج دلالته، فمن وظائفية بروب إلى وظائف جيرار جينيت في النقد السردي ومن بعدهما مدرسة التحليل الوظائفي في اللغة.

وعلى الرغم من وجود الطريقتين التحليلية والوصفية في النقد إلا إن التذوق الانطباعي ظل ساريا عند كثير من النقاد، تماما كما كان الأمر في منتصف القرن الماضي، إذ لم تكن عشرات من القصص والروايات ومئات القصائد والنصوص الشعرية لتلقى الصدى عند النقاد إلا بما يتماشى وإنطباعاتهم الذوقية أو ما يناسب ما حمله أولئك النقاد من ود أو غيض على نتاج هذا المبدع أو ذاك وانعكاسات ذلك على طبيعة القراءة لذلك النتاج وتقييمه ونقده. وكثيرا ما كانت عبارات التميز والمحاباة أو علامات الرفض والضغينة بادية على هذا الناقد تجاه هذا الأديب أو ذاك.

ولا خلاف أن التقييم والحكم وتحديد مناطق الإجادة وتبيان مواضع الإساءة ما عاد معمولا بها في النقد الأدبي لأن الناقد ببساطة لم يعد مجرد متلق بريء لا يحمل أدوات يواجه بها ذلك الأدب، بل هو متسلح بأدوات منهجية رصينة ومزود بآليات تقنية، بها يواجه إشكاليات والتباسات شتى. وصار الناقد يقف جنبا إلى جنب الأديب في محكمة النقد فإذا كان الأديب متهما فكذلك الناقد، وإذا كان الأديب موضع شك أو اتهام فكذلك كان حال الناقد أيضا، لكن من القاضي في تلك المحكمة؟

إنه القارئ الحقيقي أو بتعبير (أيزر) القارئ الفعلي الذي يمسك بالكتاب النقدي ويمرر بصره على سطوره محولا الكلمات إلى منطوقات ذهنية متصورة على هيئة كتابية محسوسة ومدركة للعيان.

وللقضية التي تتعلق بالوظيفة النقدية تاريخ طويل؛ فمنذ عصور ما قبل الميلاد وبالامتداد في العصر الإغريقي إلى العصر الروماني وما جاء بعدهما من عصور النهضة والتنوير ظلت القضية مطروحة إزاء وظيفة الناقد.

وكانت المسرحيات التراجيدية والكوميدية التي تمثل على خشبة المسرح الكلاسيكي لا يحضرها سوى أفراد الطبقة الارستقراطية أو الطبقة الأدنى منها شأنا، وهو ما جعل النقاد يتساءلون عن الغاية من النتاج الأدبي الشعري؟ وما الذي ينتظره الشاعر المسرحي من وراء عرض المسرحية؟

ولقد اهتم الناقد العربي القديم أيضا بتحديد الوظيفة التي ينبغي على الناقد التحلي بها، لكن بعد مرور هذا الزمن الطويل ما زال هذا الناقد يواجه المشكلة ذاتها، فما وظيفة الناقد الأدبي؟ وكيف يمارس وظيفته النقدية كي يحقق ما ينتظر منه؟

لو أردنا أن نحفل بإجابة قاطعة إزاء ما تقدم، فإننا سنكون واهمين لأن واقع النقد العربي المعاصر لا يمنح المتتبع أو الباحث في هذا الأمر فرصة الظفر بالإجابة المقنعة أو القاطعة، لكن بالإمكان تقريب طبيعة الإشكالية المترتبة على تلك الإجابة من خلال استعراض لطوائف النقاد وفئاتهم وأصنافهم وتوجهاتهم.

وبناء على ذلك نستطيع أن نصنف النقاد إلى ثلاث طوائف؛ فهناك طائفة النقاد الذين يمكن أن ندعوهم بـ( النقاد الكلاسيكيين)، وهم يؤمنون بالمنهجية التقليدية ويلتزمون بها ويمارسون النقد على أساسها ويذهب اهتمامهم نحو فئة الأدباء المعروفين من الأسماء اللامعة والمشهود لها بالإبداع والتميز. وهناك طائفة النقاد الذين ندعوهم بـ(النقاد التجديديين) وهم يؤمنون بالمنهجية الحداثية التجديدية التي لا تخرج عن مسار الطائفة الأولى لكنها لا تهتم بالمعروفين والمشهورين بل تبحث عن التميز حتى عند الشباب والمبتدئين في عالم الإبداع.

وتوجد طائفة ثالثة من النقاد الذين نصفهم بـ(النقاد الانفتاحيين)، وهؤلاء يؤمنون بالمنهجية الصارمة والشديدة، وهم حريصون على امتلاك ناصية التمثل النقدي الصارم بالمستحدث من المناهج. وأكثر همهم المنهجية وليس الأدب كما لا يهمهم أن يكون الأديب مبتدئا أو محترفا، مغمورا أو مشهورا، لأن المهم عندهم هو النص الأدبي نفسه وما حوله غير مغلبين التنظير على حساب التطبيق ولا جاعلين التنظير مجرد رطانة اصطلاحية وترجمات فوضوية تضيع معها أسس المعرفة ويصبح النقد شائكا؛ لا سيما ما يتعلق باختيار المنهج النقدي المناسب. ونتيجة لهذا التفاوت والاختلاف أخذ الناقد المعاصر يتقاطع مع قرائه، ولم يعد القارئ العربي يؤمن بوظيفة الناقد في الأدب ولم يعد الأديب مؤمنا بوظيفة الناقد..

وينتج عن وجود هذه الطوائف الثلاث نقد أدبي ينحو منحى كتابيا يطغى فيه الجانب المنهجي على الجانب الذوقي، وتعلو الموضوعية وتتراجع الذاتية إلى أدنى مراتبها.

مما نجده متجسدا في الناقد الراحل عبد العزيز المقالح الذي وقف في مقدمة النقاد التجديديين الذين كرسوا همهم النقدي نحو المنهج والنظرية والاصطلاح في التعامل مع النتاجات اليمنية تحديدا والعربية عموما؛ وهو متميز بكتاباته النقدية الغزيرة والثرية بمادتها وريادتها في معالجة النصوص الأدبية الشعرية والنثرية، وقد اعتنى بمناطق الاشتغال النقدي إجرائيا عبر مقاربات مع خارج النص المقروء وبما يوقفنا على تجربة المبدع صاحب النص وبؤر اهتمامه الفكرية والنفسية وحدود رؤيته الأدبية.

وقد انصب اهتمام الناقد عبد العزيز المقالح في كتابه (دراسات في الرواية والقصة القصيرة في اليمن) بالدرجة الأساس على الجانب التطبيقي.. والسبب هو إدراكه أن التنظير قد لا يحقق الغاية المرجوة.

ولم يكن همُّ الناقد عبد العزيز المقالح أن يصدّر قراءاته النقدية بمقدمات تنظيرية تثقل متن العمل النقدي وترهق القارئ وتدخله في متاهات مفهوماتية واصطلاحية عويصة وشائكة؛ لذلك فإنه تنكر لكل ما هو تنظيري عازما على الدخول مباشرة إلى النتاج السردي وولوج آفاقه وأبعاده. وهو ما يتضح في تنكره للتنظير وميله إلى التطبيق معتليا صهوة الانطباعية النقدية في توجيه مسار القراءة لديه. ولعل أهم نقاط رؤيته الانطباعية للنص المنقود وانتقالاته الإجرائية في الممارسة النقدية تبدو واضحة على الشكل الآتي: الأسلوب أو الطريقة، الملامح العامة، حضور الرمز.

يبدو أن هذا الاتجاه النقدي ساد في أغلب نقوده، لذا هو لا يغوص إلى أعماق النص ولا يحاول استنطاق مخبوءاته الفنية، وإنما هو يعتمد النظر التأثري الذي عادة ما يكون وليد اللحظة مهتما بما حول النص.