يسيطر الألم على المحيط وتتقطّر النفوس ألما في حين أنّها تروم حبّا وجمالا في هذه الحياة. داخل الحرب بكل تجلّياتها توجد حياةٌ هشّة لأناس مختلفين، سيغدو الفرحُ شيئا صعبا خاصة بتغلغل الجماعات الإرهابية في كل مكان. هكذا هي حياة البلدان التي عانت من الإرهاب، ولعلّي –كجزائري- سآخذ الحديث لـ'العشرية السوداء» في تسعينيات القرن الماضي أين عاش بلدنا حربا أهيلة مدمّرة كان سببها التشدّد الديني الذي صار إرهابا يقتلُ ويسفكُ الدماء.
ولعلّ أحد أشدّ الحروب ضراوة وفتكا هي هذه التي شنّتها ما تسمى «الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)» على هذين البلدين، هكذا تأتي رواية «الحبّ في زمن الأوغاد» للروائي الجزائري الفرنكوفوني أنور بن مالك (إصدارات دار إيمانويل كولاس بفرنسا ودار القصبة بالجزائر)، كي تستقصي أمر هذه الحرب، وتعرّي منظومة الفكر التي تؤسّس لهذا البهتان.
اختار الروائي سوريا والعراق تحديدا لأحداث روايته، وذلك لكل هذه المآسي التي تحرقها. ونقرأُ في كلمة الناشر على غلاف الرواية: «قصة حبٍّ في أحد الأماكن الأكثر شناعة على سطح الكوكب، في اللاتسامح الديني، الحرب الدائمة والاستبداد المميت؛ الشرق الأوسط»،
قراءتنا للرواية تجعلنا نلمس قدرة أنور بن مالك على تعرية حقيقة الإرهاب الديني، بلغة معقّدة ومراحل سردية مختلفة يتخلّلها تشظّ زمني.. نغوص مع قصة «تمّوز» الفرنسي الذي يريد الانخراط مع الجماعات الإرهابية، ومن خلال الحوارات نرى كيف يلمّ بن مالك بالموضوع ويتسرّب داخل تلك الجماعات.
تتباين الرواية بين الحبّ المنشود لهدى وياسر وبين الحرب والعنف.. سيكون الموتُ أكيدا في كل لحظة، لكن القدر يصيّر كل واحد منهما لمصير آخر.. يتجلى العنف بكثرة في هذه الرواية. نقرأُ في شأن حادثة رجم: «على حسب الفقهاء الأكثر اطّلاعا، لا يجب على الحجارة أن تكون كبيرة، لأنّ الموت يجب أن يأتي ببطء، ولا أن تكون صغيرة كي تستحق اسم حجرة. الحجم المتوسط يتم اختياره على أن تكفّر المذنبة عن ذنبها بالوجع... أيها العجوز، انتبه في اختيار الحجارة، يجب أن تتحصّل على الحجم الدقيق للرجم». فكيف يمكن لرجل أن يختار الحجارة اللازمة ويعمل جاهدا على أن يرجم ابنته ان لم يكن العنفُ مكدّسا في لاوعيه؟
الإرهابي في فكره يرتكز على العنف ورفض الآخر، والأخطر من كل هذا هو رغبته المطلقة في تملّك حياة الآخر، فيتذرع بالدين كي يلبي حاجات نفسه متخطيا بذلك الأعراف الإنسانية بكل تبايناتها، وفي هذا المسار يكون الجنسُ فكرة مؤسّسة على الكراهية والعنف أيضا، لذا يحتكم الإرهابي للاغتصاب من أجل بلوغ همّته التي تتمثل في التجبّر على الآخر والإحساس بإذلاله. لا يمكن لنا دراسة فكرة الإرهاب بمنأى عن التصرّف الهمجي الذي يعامل به المرأة، فهذا المنحى يحلّل الشخصية الإرهابية ويفكّك عقلها الذي يعادي المرأة في كل توجهاته، حتى الإنسانية البسيطة.. أقول هذا مفكّكا لهذه النمطية التي تميّز الجماعات الإرهابية. يسرد لنا الراوي كيف يتم الاغتصاب من طرف «أمراء الجماعة» وتُترك بعد ذلك المرأة لمن هم أقلُ رتبة، هؤلاء «الداعشيون» كما تصفهم إحدى الضحايا في الرواية، يُجهضون الحياة المستقبيلة للمرأة من خلال فعلهم، ونرى كيف يتجلّى هذا على حياة الضحايا، حيث لن يجدوا هناء طول حياتهم، وستتصدّع حياتهم العائلية والزوجية خاصة في مجتمعات تملك ردّة فعل عنيفة تجاه ظاهرة الاغتصاب والمرأة.
في هذه الرواية الحائزة على الجائزة الكبرى للخيال بباريس (2022)، نقرأُ أيضا تكاثر الفاحشة داخل الجماعات الإرهابية بمشاهد عن الاغتصاب واللّواط والتعذيب، وكيفية تغلب غريزة البقاء على الإنسان فتجعله يتخطى كل شيء كي يعيش، فهذه الغريزة تتشبّث بالإنسان حتى يموت ضميره، ولكنّ هذا لا ينفي وجود أناس ما يزالون هم أيضا يتشبّثون بضميرهم الحيّ.
الراوي يلقي بالكثير من القضايا في قالبه السردي، فيأخذنا بين سوريا والعراق، ويعود لمرحلة الغزو الأميركي للعراق حيث يظهرُ استراتيجيات الأميركان. ونقرأُ على لسان أحد القادة الأميركيين مبرّرا قصفا على المدنيين: «في ظلّ الحرب ضد الإرهاب، لا يمكن تفادي الأخطاء، المهمّ أن تتواجد دوما في صفوف الذين يحاربون ضدّ أعداء أميركا».
يتّخذ السرد في الرواية من التراث الديني مرجعا له في استبيان مواطن الخلل والألم في الحوادث التي نقرأُها.. هكذا يعود بنا الراوي لفترة تاريخية بعيدة في زمن النبيّ إبراهيم عليه السلام، ينقطع السرد في هذه المرحلة ويتيه القارئ، لكن مع عودة الزمن السردي للرواية نلمس تتبّع الراوي التاريخ واتّخاذه من بعض الحوادث مرجعا كي يُسقط الطرح المتشدّد.. هكذا تتوالى القفزات الزمنية حتى تواكب الواقعة السردية في الرواية.
تأخذُ الخاتمة بعدا رمزيا لقوّة الفنّ في مواجهة الاستبداد والعنف، فالموسيقى واللّحن الجميل يتغلّبان على العنف والجبروت ويجعلان الحاكم يقتلُ نفسه دون علم، ويستند الراوي في هذا أيضا بالمرجع التاريخي لقضة النبي يوسف عليه السلام.
المقاطع المقتبسة من الرواية من ترجمة كاتب المقال.