من هو رضا توفيق؟
هو المفكرُ العثماني المعروف بالفيلسوف رضا، التحق بالكلية الملكية العثمانية، لكنه لم يتخرج منها. بعدها التحق بكلية الإدارة العامة، وفُصل منها بسبب أنشطته السياسية، انتقل بين مدارسَ عدة، إلى أن أكمل دراستَه وانتسب الى كلية الطب، وبسبب نشاطِه طُرد غير مرة، إلّا أنّه تمكن من إنهاء دراسَته. عامَ 1908 انصرف عن مهنة الطب وأصبح خطيبا للثورة الدستورية الثانية، ونصيرا لجمعية الاتحاد والترقي، وانتُخب في العام نفسه نائبا في مجلس المبعوثان، وفي عام 1911، وبعدما تكشفت له مساوئُ الجمعيةِ أثناء توليها للسلطةَ؛ أدرك أنه حادَ عن جادة الصواب بمناصرته إياها للإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني، وأخذ يناهضُ الجمعيةَ إلى أن سُجن، مما جعله يقرر ترك السياسةِ، والتوجهَ للعمل في جامعة إسطنبول؛ فعمل أستاذا للفلسفة ولتاريخ الأدب العثماني. عامَ 1918 وبعد تولي حزب الحرية والائتلاف الحكم، شغل منصبَ وزيرَ المعارف، ووقّع على معاهدة سيفر التي من بنودِها التخلي عن أراض عثمانية، وفي عام 1922 أصدر الكماليون بعد عودتهم للسلطة من جديد، حكم الإعدام عليه بتهمة الخيانةِ وتوقيعه تلك المعاهدة.
شخصيةُ رضا توفيق
تشير الكتابات حول رضا توفيق إلى أنه كان شخصية فوضوية غير منظمة، وعاش حياةً مضطربةً، قضاها متقلبا في أقواله ومواقفه، فمن مؤيد للسلطان إلى أشد معارضيه، ثم ندم على معارضته، ومن خطيبٍ سياسيٍ لجمعية الاتحاد والترقي إلى مناهض لها، وقبيل عودتِه إلى تركيا بعد العفوِ عنه بوساطة من الأمير عبد الله عام 1943 تاب وتراجع عن معارضة الكماليين.
مشتركاتٌ في حياتَي رضا توفيق وعرار
واضح أنّ هناك تشابها كبيرا بين حياة الرجلين، فمن مؤيد لمعارض، ومن معارض لمؤيد، ومن مقرب للسلطة إلى ثائر ومتمرد، إضافة إلى مشتركات أدبية جمعت بينهما، فكما تذكرُ المصادرُ أنّ رضا توفيق أسس اتجاها شعريا جديدا كان له دورٌ كبيرٌ في تحول الشعر التركي وتأثر به معظم الأتراك من عامة الشعب، وذلك لتميز شعره ببساطة نادرة يدخُل القلب دون استئذان.
ولعرار كذلك تجربة شعرية خاصة ومذهب شعري يمتاز بالجودة والرصانة، ووثيق الصلة بالحياة العامة لسهولته وقربه من واقع المتلقي.
كان رضا توفيق، خلال تولّي الاتحاديين الحكم في تركيا، متعلقا بالعرب، ومدافعا عنهم ومطالبا بحقوقهم، كذلك كان عرار في مطلع حياته مقاوما لسياسة الاتحاديين الأتراك تجاه العرب. ويذكر العودات في كتابه «عرار شاعر الأردن»، أنّه كان لحزب الاتحاد والترقي، خلال الحرب العالمية الأولى، فرع ٌفي إربد، وذات ليلة دُعي مصطفى ورفاقه لحضور جلسة عقدها القائمون على شؤون ذلك الحزب، لكن مصطفى وإخوانَه رفضوا تلبية الدعوة.
كان رضا توفيق منتميا إلى الطريقة البكتاشية الصوفية وقائدا لبعض أعضائها، ويبدو أنّ عرار قد تأثر بهذه الطريقة من خلال صداقته برضا توفيق. ويذكر يعقوب العودات أنّ بعض صحب عرار أكّد له أنّ عرار عندما كان يحلّ بالقاهرة كان يزور الزاوية البكتاشية القائمةَ في سفح المقطم ويقضي الليالي الطوال مع دراويشها، يستمتعون بآلات الطرب والغناء. ومن مظاهر اهتمام عرار بالبكتاشية كتابته مقالة حول مفهومها ومبادئها.
كان رضا توفيق فيلسوفا، ومؤلفاته في الفلسفة كثيرة، ومنها رسالة في وحدة الوجود، وكان لعرار أيضا اهتمام كبير في الفلسفة وفي مسألة وحدة الوجود، وكتب مقالة عنوانها: «التصوف الإسلامي بين وحدة الوجود ووحدة الموجود».
رضا توفيق ورباعيات الخيام
عمل رضا توفيق مع حسين دانش (وهو من أصل إيراني) على ترجمة الرباعيات، وطبعت في حزيران عام 1922 في إسطنبول بعنوان: «خيام النيسابوري.. حياته وفكره ورباعياته»، وصنفا الرباعيات بحسب اعتقادهما إلى ثلاث مجموعات؛ الأولى أصيلة، وهي التي ترجم عنها عرار، والثانية منسوبة للخيام، والثالثة مدسوسة عليه، ولم يرتبا الرباعيات على حروف القافية، ورتبا الجزء الأول من الرباعيات -الأصيلة بحسب اعتقادهما- على أساس المحتوى والمضمون.
وبعد صدورِ حكم الإعدام على رضا توفيق وفراره من تركيا عام 1922، طبع حسين دانش الترجمة المشتركة منفردا وحذف مقدمةِ رضا توفيق ولم يشر إليه كشريك له في الترجمة، وقام رضا توفيق بالعمل نفسه وطبع الترجمةَ باسمه عام 1945، أي بعد وفاة حسين دانش بسنتين.
فرارُ رضا توفيق إلى شرقي الأردن وعلاقته الشخصية بعرار
في 16 تشرين الثاني 1922 أصدر الكماليون حكم الإعدام على رضا توفيق بتهمة الخيانة وتوقيع معاهدة «سيفر»، فهرب رضا توفيق إلى مصرَ، ومن هناك إلى الحجاز، وأخيرا إلى شرقي الأردن. ويصف رحلته قائلا: «أخيرا وصلنا إلى الإسكندرية في السادس والعشرين من تشرين الثاني عام 1922، وتوجهت إلى القاهرة، ثم ما لبثت أن أخبرني أحد الأصدقاء بوصول الأمير عبدالله إلى القاهرة قادما من إنجلترا فسررت كثيرا؛ لأنني كنت مع الأمير عبدالله زملاء في مجلس المبعوثان، فتوجهت إليه واستقبلني بوجه بشوش وتكلمت معه بلهجة إسطنبولية، وعندما غادر حضرة الأمير القاهرة دعانا لزيارة الحجاز، وبعد ثلاثة أيام ركبنا معه السفينة متوجهين للحجاز».
وبقي رضا توفيق في الحجاز إلى أن استدعاه الأمير عبد الله إلى شرقي الأردن، ووصل في نيسان عام 1923 إلى الشونة، ثم رحل إلى عمّان حيث عهد إليه الأمير عبد الله بمنصب ترجمان في الديوان العالي، وتقلد رضا توفيق مناصبَ عدة خلال إقامته في الأردن الممتدة لسبع سنوات، أهمها محافظا أي (وزيرا) للآثار في حكومة حسن خالد أبو الهدى الثانية، وأحيل إلى المعاش عام 1930 وسافر إلى جونيه في لبنان وأقام فيها.
ليس هناك من مؤشر على أنّ عرار قد التقى برضا توفيق قبل وصوله إلى شرق الأردن، ولكن ما هو مؤكد أنّ عرارَ كان يسمع بالرجل قبل لقائه؛ لما كان يتمتع به رضا توفيق من مكانة سياسية وأدبية وفلسفية، وبوصول رضا توفيق إلى شرق الأردن بدأت المعرفة الشخصية لعرار به، فوجد أنّه يشترك معه في كثير من السمات الشخصية والفكرية والسياسية والأدبية، مما مهد لتكوين صداقة بينهما.
وينقل يعقوب العودات رسالة تلقاها من رشدي المهتدي يصف فيها دار الحكمة التي كانت تجمع عرار، على ما يبدو، بانتظام برضا توفيق، فيقول بأنّها: «دكان صغيرة في عمان لنجار يصنع المحاريث، وتقع في مدخل المنشية، وهي قائمة على أعمدة من خشب وسقفها من الزينكو وأرضُها مفروشة بالنشارة وفي وسطها حجر أُعد كمنضدة للشراب، وبالقرب منه حجر آخر جلس عليه الفيلسوف التركي رضا توفيق وحجر آخر جلس عليه عرار وأحضر لي صاحب الدكان حجرا آخر جلست عليه، فشكلنا مثلثا ووضعنا زجاجة الكونياك على منضدة الشراب ورحنا نحتسي الأقداح وحديثنا فلسفي بعيد عن عالم المادة».
وكان من الطبيعي أن يتبادلا الحديثَ عن الخيام وفلسفة الرباعيات وعن ترجمة رضا توفيق للرباعيات في جلساتهما، ويصرح عرار بعلاقته الوثيقة بصديقه الفيلسوف التركي وبتأثِره بنظرياته وآرائه، فيقول في أحد أبيات قصيدته «الهارب الغالي»:
«الفيلسوفٌ رضا توفيق لقّنني
أنّ الشجيَّ نجيٌّ خاليَ البالِ».
أمّا محمد الشُريقي، الذي كانت تربطه أيضا صداقة قوية برضا توفيق وكان يقومُ بترجمة مقالاته إلى اللغة العربية في صحيفة «الشرق العربي»، فيقول: «إنّ مجالس رضا توفيق في عمّان ساعدت على تطور الفن والأدب في شرقي الأردن، واستفاد منها الأدباء الأردنيون استفادة كبيرة"َ.
ترجمةُ عرار للرباعيات عن نسخة حسين دانش ورضا توفيق
يذكرُ العودات في كتابه «عرار شاعر الأردن» العامَ الذي ترجم فيه عرار الرباعيات، بقوله: «بعد أن دفعت فصولَ هذا الكتاب إلى صفّاف الحروف وافاني الأستاذ معن التل، ابنَ شقيقة شاعرِنا، بدفتر قديم، تضمن ترجمة ثانية لرباعيات الخيام بقلم عرار نقلها عامَ 1922 عن كتاب بالتركية مطبوع في الآستانة بعنوان (رباعيات عمر الخيام بقلم الأديبين العالِمين حسين دانش والفيلسوف العثماني المعروف الدكتور رضا توفيق)».
نستنتج من حديث العودات أنّ كتاب رضا توفيق وصل إلى عرار قبل وصول صاحبه إلى شرق الأردن في نيسان عامَ 1923، وما يدعم هذا الاعتقاد هو قول رضا توفيق أنه عند هروبه من تركيا لم يحمل معه شيئا سوى القليلِ من النقود. ومن الثابت أيضا أنّه وبعد استقراره في شرق الأردن قام الأمير عبد الله بتغطية تكاليف نقل كتبه التي لا يقل عددها عن 3000 مجلد، إلى شرقي الأردن، وهي محفوظة، إلى يومنا هذا، في مكتبة الجامعة الأردنية. أمّا السؤال الذي لم أوفق في الإجابة عليه، فهو: هل أنهى عرار ترجمة الرباعيات وعددها 155 رباعية في مدة زمنية تقل عن تسعة شهور، أي المدة الزمنية المتبقية على نهاية عام 1922 منذ صدور ترجمة رضا توفيق في حزيران من العام نفسه وهي خمسة شهور، يضاف إليها أربعة شهور من عام 1923، وهو العام الذي وصل فيه رضا توفيق في شهر نيسان إلى شرق الأردن، أم إنّ الترجمة استمرت حتى 1923، وبحضور رضا توفيق صاحب الكتاب الذي ترجم عنه عرار الرباعيات؟
اختلافُ عرار مع رضا توفيق
بعد صداقة استمرت لأكثر من أربع سنوات بين عرار ورضا توفيق، هاجم عرار رضا توفيق بعنف على صفحات صحيفة «الكرمل» عام 1927 بمقالة عنوانها «قبور وقبور» وذلك بمناسبة توقيعِ رضا توفيق على بيع 6000 دونم لـلصهيوني (روتنبرغ)؛ لإقامة محطات لتوليد الكهرباء في منطقة الباقورة الأردنية جنوب بحيرة طبريا، عند ملتقى نهريّ اليرموك والأردن، وبسبب الكلمات التي فاه بها رضا توفيق ووصلت لمسامع عرار قبيل إبرام القرار، وهي: «ما لي لعمّان وسكناها، وما يفيدني أن أكون محافظا للآثار في حكومة شرقي الأردن، وأن يكون راتبي أربعين جنيها». وبهذه المقالة تكون علاقة عرار برضا توفيق قد انتهت إلى غير رجعة.