بلا يوم ولا بارحة، ولا حديث حسرة عن التشابه بينهما. بل قراءةٌ للوقائع، وفتحٌ للبصائر على ما يحدث الآن.
هنري كيسنجر، واحد من أكثر الشخصيات السياسية غموضا ونفوذاً، التي عرفتها الولايات المتحدة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية. ولنا، نحن العرب، نصيب وافر في سيرة انتصاراته السياسية، وهزائمه أيضا. هذا ما يشرحه كتاب لـ«أليستير هورن»، بعنوان كيسنجر؛ 1973، العام الحاسم.
الأهم، برأي كينسجر، ووسط ركام انتصاراته وهزائمه، من مسيرة التطبيع مع الصين، إلى سياسة الوفاق مع الاتحاد السوفييتي، مرورا بالانسحاب الأميركي من فيتنام وفضيحة «ووترغيت»، وصولاً إلى الصدمة النفطية الأولى، التي انفجرت بين العرب والغرب، هو أن العام 1973 شكل عاماً حاسماً لنجاحاته وانتصاراته. ما عبّر عنه كيسنجر بقول لا يحتمل تعليقاً: «كنت بمثابة الإسمنت الذي حافظ على البناء كله عام 1973، وليس في هذا القول أي غرور»، ليجد الرئيس نيكسون نفسه مرغماً على تعيينه وزيراً للخارجية، مع احتفاظه بمنصبه كمستشار للأمن القومي ا?أميركي!
لم يزل السياسي الأميركي المخضرم كيسنجر فاعلاً إلى اليوم، وعلى مستويات استراتيجية واقتصادية وسياسية، وله مدرسة وأتباع. غير أن إرثه السياسي والأمني أكبر من أن يحيط به كتاب أو سيرة أو مذكرات. وفي ذلك شؤون وشجون.
الشاعر اللبناني أنسي الحاج، نشر، قبل أعوام، مضمون رسالتين متبادلتين، بين ريمون إده وهنري كيسنجر، في العام 1976، حصل عليهما من شريط وثائقي لبناني.
الرسالة الأولى، هي من الزعيم السياسي اللبناني إدّه إلى كيسنجر، يعاتبه فيها على الموافقة الأميركية الضمنية على دخول قوات الردع العربية إلى لبنان. وإده، الذي يعتبره الحاج آخر الرؤيويين اللبنانيين المسيحيين، يوصل عتبه بحدّة ومباشرة، قائلاً في رسالته لكيسنجر: ليس لي شرف معرفتك. لكنني أعرف ما تقدر عليه، خاصة منذ أصبح هذا الجزء من العام حقل صيد مخفوراً لك، تستطيع أن تختار فيه من الطرائد ما يعجبك.
لم يتأخر رد كيسنجر على إدّه، الذي كتبه من «نيو مكسيكو»، وكان أكثر حدّة وقسوة. فبدأه بالحديث عن زيارته السرية الأخيرة للبنان، التي اضطر فيها إلى لقاء الرئيس اللبناني سليمان فرنجية، في ثكنة عسكرية، نظراً لعدم قدرة السلطات اللبنانية على تأمين حمايته. حيث يقول:
».. اكتشفت خلال الساعات القليلة، التي أمضيتها في ثكنة عسكرية عندكم، أنني في وطن هارب يختبئ من واقعه المتردي »..!». طبعاً، أنا أعرف جوابك على هذا الكلام. فالمسؤولية دائما وأبداً تقع على الولايات المتحدة. وإنما ثق بأننا حاولنا مراراً وتكراراً أن نتآمر على أنظمة عديدة في العالم العربي «ولا نزال.. »، لكن كل محاولاتنا باءت بالفشل. لماذا؟ لأننا اصطدمنا بمقاومة وطنية وبمناعة داخلية. والزلازل لا تحصل إلا في الأرض المشقوقة. ولا أكتمك أن لبنان بلد مثالي لتحقيق المؤامرات، ليس ضده فقط، بل ضد العالم العربي ككل. من هنا ?كتشفت في تناقضاته عناصر جديدة، من أجل نصب فخّ كبير للعرب جميعا»!
حديث المؤامرات والفخّ هو برسم من ألْهَاهُم مفهوم نظرية المؤامرة، كتهمة تُشرَعُ في وجه كل من يعارضهم. أما حديث التردّي والأوطان الهاربة فهو برسم الجميع، على مائدة أخلاقٍ للسياسة الأميركية لم تتغير، ولن تفعل، وقبل أن يصلها كيسنجر في عامِهِ الحاسم وبعده.
fafieh@yahoo.com