محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

بدر شاكر السياب في المذكرات

No Image
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ
د. نادية هناوي - (ناقدة عراقية)

لكتابة المذكرات أهمية أدبية، ففيها يلتقي السرد بالتاريخ والسياسة وغيرهما، ومن ثم لا تكون الأهمية منصبة على الشعر وحده ومسائله الإبداعية من قبيل قوة المخيلة وجودة التشكيل وصدق التعبير، وإنما تكون الأولوية للأمور العامة والنواحي الشخصية. وهو ما يجعل كاتب المذكرات حرا في ما يأتي به من تفسيرات وتأويلات لحوادث آنية ومزاجية وخارج أدبية لا تخلو من تحامل أو تعاطف وقد تلحق بعض الحيف بالمبدع لا سيما إذا كان هذا المبدع كبيرا مثل السياب.

ومن ذلك مثلا المذكرات التي كتبها عبد اللطيف اطيمش المعنونة «بدر شاكر السياب في أيامه الأخيرة»، وهي تقدم لنا مشاهدات وحوارات ولقاءات فواعلُها أهم شواعر العراق وشعرائه، كذكره الجواهري وأنه عبّر عن ألمه لما أصاب السياب من غبن وتجاهل قائلا: «هو شاعر مقتدر من دون شك وهو أفضل شعراء جيله».

بيد أن الأهم في استذكارات اطيمش ما سجله من آراء كانت سببا في وضع السياب في طريق السياسة الشائك، منها أن السياب جادل في أمسيةٍ في موضوعة فلسفة الالتزام ونظرية الفن للفن والشعر في خدمة الجماهير. وأشار اطيمش عرضا إلى حادثة نادرة وهي ذهاب السياب الى روما عام 1961 للمشاركة في مؤتمر حول الأدب العربي المعاصر وفيه قدّم محاضرة عن الالتزام في الأدب العربي، أثارت جدلا ومناقشات في الصحافة العربية، فانتقده النقاد واتهموه بالتناقض والتذبذب بسبب ما ذكره من أن تأثره وجيله من الشعراء العرب بالشاعر ت. س. إليوت كان تأثرا موضوعيا، مخالفا بذلك ما كان معروفا عنه في أثناء انخراطه في الحزب الشيوعي من أن إليوت شاعر رجعي.

وهذه المماحكات والانتقادات أمر طبيعي إذا علمنا أن السياب تعرض قبل سنوات من هذه المحاضرة إلى حملة معادية من الأدباء اليساريين بسبب تغيير مواقفه الفكرية، وأهم ما في هذه الحملة ما ذكره عبد اللطيف اطيمش عن الاجتماع التاريخي في بيت الجواهري بعد ثورة 1958 لانتخاب أول هيئة إدارية لاتحاد الادباء العراقيين، مؤكدا أن قوى اليسار هي التي همشت السياب ونجحت في مسعاها، مما أصاب السياب بأزمة نفسية كبيرة دفعته إلى كتابة مقالات غاضبة في صحيفة «الحرية» البغدادية عام 1959 عنوانها «كنت شيوعيا»، وأثارت هي الأخرى جدلا واسعا في حينه.

وعزز اطيمش ما ذكره عن هذه الحملة المغرضة ضد السياب بشهادتين، الأولى للشاعرة لميعة عباس عمارة وقدمتها في أمسية شعرية بلندن عام 1996 وكشفت فيها عن أمور خاصة عن حياة السياب -قامت فيما بعد بكتابتها في مذكراتها- ومنها ما ذكرته عن الاجتماع في بيت الجواهري صيف 1958 وفيه كانت سيطرة الشيوعيين كبيرة، وأن السياب أصيب -بسبب تجاهلهم المتعمد له ومحاربتهم إياه- بمغص وغثيان وكاد يغمى عليه وأنهم فيما بعد قرّبوا شاعرا على حساب السياب لم تذكر لميعة اسمه، لكن اطيمش والكثيرين يعرفون أن المقصود هو البياتي.

وكانت الشهادة الثانية للشاعر بلند الحيدري وقدمها في محاضرة في لندن عام 1993 وذكر فيها ذاك الاجتماع، وأن إبعاد اسم السياب عن الهيئة التأسيسية جعله ينسحب. وقال: «السياب حورب بتعمد واستُبعد من إدارة الاتحاد بضغط الحزب الشيوعي الذي كان مسيطرا على الحياة السياسية والثقافية بعد سقوط النظام الملكي»، وهو ما سبب له ملاحقات وتعرض إلى إهانات قاسية. ومنها ما ذكره اطيمش من أن بعضهم تعرض للسياب في الشارع و"أجبروه بعد أن أهانوه على أن يعلق صورة الزعيم عبد الكريم قاسم على ياقة قميصه».

وكان من تداعيات ذلك كله أن تزايدت خصومات السياب، فـ"كان يبخس نفسه أحيانا وكأنه يجهل قيمته الأدبية العالية، فينخرط في مدح من هم دون قدره ولا يستحقون منه ذلك»، كمدح مزهر الشاوي.

وليست السياسة وحدها عدوة الإبداع، وإنما أيضا سوء الحظ وحسد الحساد وغيرتهم التي ما إن تجتمع مع السياسة حتى توهن أقوى الشعراء إرادة وأكثرهم جلدا. ولمّا كان السياب عليلا في أصل وضعه الجسدي فإن ما أتاه من أهوال بسبب السياسة وكيد الحساد ضاعف همّه وحطّم معنوياته وجعله فريسة سهلة للاعتلال الجسدي والأذى النفسي.

ويؤكد ذلك ما نقله اطيمش عن الشاعر عبد القادر رشيد الناصري أنه قال له بالحرف الواحد: «السياب لا يصلح للسياسة، وجيلنا لم يكن محظوظا، فقد ولد في زمن الغيرة والتباغض والحسد والمكائد، والشعر لا يزدهر إلا بالمحبة والنقاء. والعداوة والغيرة تقتلان الشعر».

وذكر عبد اللطيف اطيمش قصة خروجه من العراق بلا جواز هاربا إلى الكويت، وهناك استقبله الشاعر الكويتي محمد الفايز، وفي تلك الأثناء كان السياب قد وصل إلى الكويت قادما من إيران، وكان مريضا، فرعاه الشاعر علي السبتي وأدخله المستشفى الأميري ليرقد فيه إلى أن وافاه الأجل.

وفي ذلك المكان التقى اطيمش بالسياب وهو طريح الفراش، وروى تفاصيل حواراته معه ومشاهداته، وفي مقدمتها أن السياب وبالرغم من مرضه ووهن جسده كان متقد الذهن وخصب القريحة، فكان يكتب قصائده ويسلمها لعلي السبتي الذي كان ينشرها في صحيفة «صوت الخليح»: «حارّة مثل رغيف الخبز الخارج لتوه من التنور.. وكل يوم تقريبا يسلم قصيدة تُطبع في الليل وتظهر في الصباح.. كان هذا جزءا من عبقريته في الشعر».

ومن أقوال السياب التي نقلها اطيمش في مذكراته: «اعتمدوا على أنفسكم، ولا تعولوا على الأجيال أو رعاية الأدباء الآخرين»، وهو ما اعتمده من بعده عبد الرزاق عبد الواحد وشاذل طاقة وسعدي يوسف ويوسف الصائغ. ووقف السياب عند بؤس السياسة وما تسببه للمبدع الحقيقي من خصومات ومكابدات، لائما الأدباء العراقيين لأنهم كانوا «مثل الحزبيين.. لم يضعوا مصلحة الوطن في أولى حساباتهم.. لقد انشغلوا بالتناحر والمكائد والمنافع الشخصية صاروا أبواقا حزبية وكتّاب دعاية».

ونقل اطيمش عن نجيب المانع أن السياب بعد فصله من ثانوية الرمادي عام 1949 عمل في شركة نفط البصرة، وأن المدير الإنجليزي كان يعامله بجفاء وينهره. وذكر أن أول مقابلة مع السياب كانت في مجلة «فنون» التي يرأس تحريرها الشاعر صادق الصائغ.. وأن جبرا إبراهيم جبرا كان يعد كتابا عن الأبطال التراجيديين في التاريخ، واجدا في حياة السياب ومأساة مرضه وموته «حالة جديرة بالدراسة». كما أشار إلى فضل فيصل السامر على السياب، وكان صديقه وابن مدينته، إذ كلّفه السياب طباعة ديوان «أزهار ذابلة» خلال ذهابه إلى مصر عام 1947، والسامر هو الذي حمل أيضا مخطوطة السياب «بين الروح والجسد» -وهي ملحمة شعرية كتبها فيما يقارب ألف بيت- إلى الشاعر المصري علي محمود طه لكتابة مقدمة لها (لكن وفاة الشاعر ـــ علي محمود طه- أوقفت هذا المشروع).

وأشار اطيمش إلى تعلق السياب بممرضة لبنانية شابة جميلة في أثناء إشرافها على معالجته بييروت، وكانت محبة للأدب، فكتب فيها قصيدته (ليلى) التي تنتهي بهذا المقطع الضافي:

"تأتين لي وعبير زنبقة يشق لك الطريق فأيّ عطر

وتودّعين فتهبط الظلماء في قلبي ويطفئ نوه القمر الوضي

فكأن روحي ودّعتني واستقلّت عبر بحر

وأظل طول الليل أحلم بالزنابق والعبير

وحفيف ثوبك والهدير

يعلو فيغرق ألف زنبقة وثوب من حرير».

ومن الاستطرادات التي وردت في مذكرات اطيمش وكشفت عن معلومات قيمة، ما ذكره من أن القاص أنيس زكي حسن هو أول من ترجم كتاب «اللامنتمي» لكولن ولسن، وأن سليم النعيمي مدرس التاريخ في دار المعلمين العالية هو أول من ترجم «أعمدة الحكمة السبعة» لإدوارد لورنس المعروف بلورنس العرب، وأن البدلة الرمادية التي ارتداها تمثال السياب الذي أقيم له على شط العرب عام 1971 هي التي كان يرتديها حين ألقى قصيدته «بور سعيد» على منصة كلية دار المعلمين العالية عام 1957.

والمحصلة التي انتهى اطيمش إليها وكانت هي الغاية من وراء كتابة هذه المذكرات، هي الاستعبار وأخذ العظة من حياة السياب، فكان اطيمش شاهد العيان على عذابات السياب في أيامه الأخيرة ومحن ما عاشه في الغربة قائلا: «حالة السياب هذه علمتني الصبر والجلد لأنني شاهد عليها. إنها ليست مأساة السياب وحده، بل مأساة كل المبدعين والفنانين ورجال الفكر الأحرار الذين ظلمتهم أوطانهم وحاربهم أعداء الحرية».

محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF