محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

«قلعة الدّروز» لمجدي دعيبس.. الشخصيّات والمآلات

No Image
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ
رشيد عبد الرحمن النجاب - (كاتب أردني)

«نايف» قد يكون اسماً رديفاً للرواية الموسومة «قلعة الدروز»، الإصدار الجديد للروائي الأردني مجدي دعيبس عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2022)، ذلك أنّ نايف شكّل شخصية محورية في الأحداث، سواء كان هو الراوي، أو كان هناك غيره من الرواة الذين تولوا السرد عبر فصول الرواية المتتالية، فالصفات التي أسبغها عليه المؤلف من خلال أحاديث الرواة تؤهله لهذه المكانة، والتي جاءت متوافقة مع نشأته في كنف والد مثل «عجاج» ووالدة مثل «صبحيّة»، ولهما ما لهما من رجاحة العقل، والقبول، بل سحر الجاذبية في عيون الآخرين، ولهذه الجزئية تفصيل لاحق في هذه السطور.

أعود قبل الاسترسال في الحديث إلى موضوع الرواة الذين ساهموا على نحو متتال في مصاحبة القارئ، ووصف شخوص الرواية، ورسم معالم شخصياتهم، ومتابعة الأحداث المختلفة وما تركته من آثار في المجتمع المحيط. جاء ذلك دون السقوط في زلّة التكرار، بل كانت هذه الشهادات «إن جاز لي استخدام هذه العبارة» متقاطعة، قدمت أوصافاً متعددة للشخوص والأماكن والأحداث، وكانت «الواحة» أبرز هؤلاء الرواة. ومَنْ أقدر من المكان الثابت موقعاً، المتغير بسكانه وطبيعته عبر الأزمان، على رواية الأحداث لا سيما القديمة منها، والتي رسمت مراحل تعمير هذا المكان منذ العهد الروماني مروراً بالعهد الأموي، وصولاً إلى مطلع القرن العشرين حيث شكلت القلعة التي اتخذت اسم «قلعة الدروز» مسرحاً لمساحات واسعة من مشاهد الرواية؟ وكان آخر ما شهدت به الواحة مشهد العثور على الهيكل العظميّ وخاتم مؤسّس هذه القلعة في سياق ربط الماضي بالحاضر. ذلك المشهد الذي نقل للقارئ رسالة مفادها أن حلم الخلود الذي نشده «أرنسو» بتقليد الفراعنة في أهراماتهم قد ذهب أدراج الرياح، فبقيت أطلال القلعة، ولكن الهيكل العظمي تناثر، وبات الخاتم في يد عدد من المتعطّلين، الحقودين المثبطين للهمم؛ «متعب وإخوانه».

وفي الحديث عن التاريخ وجبت الإشارة إلى أنّ علاقة السرد في الرواية بالعبء التاريخيّ كانت معتدلة، وعلى الرغم من أهمية الأحداث التاريخية المواكبة لزمن الرواية إلّا أن الكاتب ركّز على حركة الشخوص وحواراتهم، جاعلاً من التّاريخ خلفية للمَشاهِد، وملقياً جلّ الضوء على المساحات الأكثر صلة بالحياة اليوميّة للناس وتحركاتهم. واللافت في هذه الرواية عدم تزاحم الأحداث الرئيسة بحيث يمكن إدراجها في عدد من السطور، إلّا أن الأهم هو ما أحاط بتلك الظروف من وصف للتفاصيل، وعلاقة الشخوص بعضهم ببعض وبالأماكن والظروف المحيطة، وعليه فقد رأيت أن أنأى بالقارئ بعيداً عن إدراج الأحداث بتتابعها إلى الاقتراب من بعض هذه التفاصيل، وإلقاء الضوء عليها بطريقة غير مباشرة، تحاول قراءة ما بين السطور.

فتهيئة القلعة كموقع متقدم يحرس الطرق الصحراوية في أطراف الإمبراطورية الرومانيّة، وأحلام الخلود التي صاغها أرنسو وهو يراقب أعمال البناء، وجهوده في تأهيل المكان وتحصينه ضد الوحوش الضارية، وبالرغم من حرصه على تكامل جماليات البناء إلا أنه أغفل في سطوة غروره وأوامره للعبيد والمحكومين، العلاقات الإنسانية التي لم يتوفر أي منها في الصور التي روتها الواحة، وعمد إلى جرو ضبع يحاول تدجينه، ربما في إشارة إلى تقريب مخلوقات ليست أهلاً للتّدجين، فتدبّر أيها القارئ أي مآل يمكن أن تصل إليه الأمور؟ في هذه الجزئية ثمة صور قديمة للظلم والجور الذي مارسه الإنسان عبر العصور.

ثمة مراحل اختصرها الكاتب واكتفى بالإشارة إليها تتمثل في الحكم العثماني وما لحق بالمنطقة وسكانها من جور جراء خمسة قرون من الحكم كان البطش طابعها، والجهل والتخلف ناتجها، وصولاً إلى أمل لم يتحقق بالاستقلال بزوال الحكم العثماني، فقد كان «الفرنساوي» بالمرصاد، وخاضت المنطقة في عصر من الظلم فاق العصور كلها. في هذه الأجواء تشكّلت الظروف المحيطة بهذه الرواية.

ولكن مهلاً! لماذا «قلعة الدروز"؟ ولماذا الدروز تحديداً؟ القلعة الواقعة في الأزرق التي عُرفت لاحقاً بقلعة الدروز شكّلت عبر التاريخ ملجأ من نوع ما، الرومان بحثاً عن مجد ذاتي، حتى لو كان بصحبة عدد من العبيد والضباع، حكام الأمويين لجأوا بعيداً عن زحمة حاضرة الحكم في دمشق إلى الصحراء في نزوع للرّفاهية وسحر الصحراء، لكن القلعة شكّلت في العصر الحديث ملجأ للباحثين عن أمنهم وأمن عائلاتهم. الدروز من جبل العرب كانوا في طليعة الثوار ضد المستعمر الفرنسي.. لم تقتصر الثورة عليهم، ولكنهم كانوا في الريادة.

كانت هذه فرصة للتعريف بالدروز، وقد فعل الكاتب ذلك على نحو كان يمكن أن يكون أكثر عمقاً، إلا أنه مرّ بالملامح الرئيسة للموحدين، ملابسهم الرجالية منها والنسائية، والأطعمة المختلفة التي تقدم في الولائم خصوصاً «المنسف الدرزي» و"المليحي» ومكوناتها وطريقة إعدادها وغير ذلك، وبعض المعتقدات والمصطلحات المستخدمة في إدارة شؤونهم مثل «شيوخ العقل»، وعقيدة التقمص والحلول والحدود الخمسة وغير ذلك.

حفلت هذه الرواية بالعناية بالأمور الاجتماعية، بل والاقتصادية، بالقدر الذي حفلت به بالظرف السياسي العام في تلك الحقبة من الزمان وبدرجة عالية الدقة في الوصف. الأسرة كانت البداية، أسرة «عجاج أبو عطا"؛ عجاج أولاً ثم صبحيّة، ونايف تالياً ولاحقاً وامتداداً، فرعاً مظلاً مثمراً لا يخلو من شوكة تضرب في خاصرة «الفرنساوي» بل وكل ذي همّة ثقيلة في المجتمع المحلي. ولم يكن «ذياب أبو عطا» ولا زوجته «نعايم» إلا أجزاء أصيلة من هذه الدوحة الظليلة.

يتساءل عجاج ماذا عساه يتصرف لو كان مكان نايف في تلك الظهيرة البعيدة، هل كان سيكبح جماح مشاعره ورغبته الملحة بالانتقام السريع؟ ولكته ما لبث أن استسلم لحيرته قائلاً: «لا أعرف ربما فعلتُ ما فعله بالضبط.. آه يا نايف!». هذا هو عجاج إذن شخص يدقق في الأمور، يشبعها تدقيقاً وتمحيصاً قبل أن يقدم على أي تصرف. من أين له هذا الصبر والتروي؟ تلك الخصلة التي ساعدته في شد أزر صبحية في محنتها عندما تأخر حملها وهذا ما هدأ من روعه فحمى نفسه من تقريع نايف وملامته مهدياً إياه أول الدروس في الحكمة، وتتابعت المواقف مع مرور الأيام لتزداد هذه الصفات رسوخاً. كان هادئاً، صابراً قادراً على تدبير الأمور بالرّويّة بعيداً عن التشنج والانفعال، صفات قادته إلى موقع القيادة مختاراً لمجتمع الدروز في القلعة، والقيادة هنا لم تكن تشريفاً بل استحقاقاً وفّى عجاج بكل متطلباته، فهو النازع لفتيل الأزمات وإن اتهمه «أبو متعب» بالجبن، وهو الباحث عن حلول لتوفير الإقامة للوافدين الجدد، والزحف الجريء خارج أسوار القلعة، والبحث عن مصادر المياه وفرص الزراعة، وصولاً إلى مصدر للثروة الطبيعية المتمثلة في الملح واستخدامه بديلاً للمال.

وبالرغم من صفاته وقدراته الذاتيّة، إلّا أن وجود «صبحية» في حياته كان له الأثر الأكبر في اكتساب المزيد من القوة بوجودها بجانبه، قوة تستند إلى مشاعر نبيلة لم يتمكن النص من إخفائها. كان يحبها ويدافع عنها ويبرر تصرفاتها وقلقها لأمه، ويشعر بمعاناتها وهي تنتظر حملها بقلق وضيق.. أنا لا أؤلف الآن، بل أقرأ ما جاء في ثنايا النص عن أسرار تلك العلاقة الفريدة بين عجاج وصبحية التي ما إن أثمرت بقدوم نايف، حتى توفرت البيئة الملائمة لنشأة إنسان هيأه المؤلف ليقوم بما قام به من دور شجعني على اقتراح «نايف» اسماً رديفاً للرواية، فمن هي صبحيّة؟

صبحيّة التي نشأت في بيت والديها بقدر من الجرأة وكثير من الدعم من والدها الذي نهى والدتها عن الضرب في التعامل مع صبحيّة، فنشأت على قدر من الثقة عزّزها ودعهما ذلك التعامل المميز من قِبَل زوجها عجاج، هذا إلى صفات أجمع الرواة على الثناء عليها والتعبير عن محبتها والارتياح إليها بمن فيهم ولدها نايف، وهي المتفتحة العقل التّوّاقة إلى معرفة كل التفاصيل بما فيها تلك التي يدور الحديث حولها في مجلس المختار، والتي لم يمل عجاج من توصيلها بأمانة إليها.

هذا ما كانت عليه صبحية في نظر سلفتها «نعايم». تقول نعايم إن ما جذبها لصبحية: «جرأتها على النظر بعيون الناس، وروحها الطليقة». وتقول أيضاً: «ربما ابتسامتها المقتضبة وربما نظراتها الودود التي توزعها على الجميع»، أما علاقة ذياب بزوجة أخيه فقد كانت له بمثابة والدته كما كان عجاج بمنزلة والده، لم يكن الموقف محدوداً بآراء الآخرين، بل تعداه إلى ممارسات فعليّة تؤدّيها صبحيّة في اللقاءات الاجتماعيّة وحين يقتضي الأمر إلى القيام بالمبادرات وتقديم الآراء في ما يستجد من الأمور. وهنا أتوقف عند ملاحظة حرية بالاهتمام تتمثل في مراعاة اختلاف الخطاب بين الرجال والنساء، وتضمين شهادات النساء خطاباً أقرب إلى طبيعتهن ومراعاة اهتماماتهن المختلفة وطرق الوصف المختلفة التي يعتمدنها، وقد أعجبني أن ينتبه المؤلف إل هذه الحقيقة ويراعيها في الرواية.

ولنايف رأي في والدته ولرأيه وزن مختلف، يقول: «كل أهل البيت يحسبون حساب أمي ابتداء بأبي وانتهاء ببدرية، لست متأكداً من السبب»، ويعتقد «أنّها بارعة في إظهار مشاعرها اللطيفة تجاه الآخرين، فهي تمطرهم بالابتسامات والنظرات الدافئة حتى يصبحوا طوع بنانها»، لكنّه يستدرك قائلاً: «لكن مهلاً... هناك شيء لم أنتبه له إلا الآن وربما هو السبب، نبرة الصوت مختلفة، كيف لم أعِ هذا من قبل؟ صوتها عميق وفيه حلاوة تستميل السامع فينصاع لرغباتها دون أن يدري بنفسه».

سيدة بهذه المواصفات كانت حتماً قمينة بتربية وتنشئة شاب مثل نايف، بصحبة زوج محب متفهم داعم دون أن ينقص ذلك من رجولته شيئاً. عجاج وصبحية منحاه الثقة، جنّباه الملامة، أوكلا إليه المهام.. كان رجل المسؤولية دوماً، الساعي إلى المشاركة في الأعمال، صاحب الفكر قبل التصرف حتى في مواجهته مع الجندي الفرنسيّ بعد أن أطاح هذا بجدة نايف فأرداها قتيلة، هوذا يصف الموقف قائلاً: «نظرتُ إلى وجه الجندي فساءني ما رأيت، وتضاعف حنقي وغضبي، لو أنني قرأت الأسى والندم في عينيه لما قتلته، ولكنه كان صلفاً متعالياً ويستحق الموت"؛ يقيّم الوضع، يصدر الحكم، ينفذه، ثم ينسحب، ليس فراراً ولكن قراءة للموقف ولما يمكن أن يكون. يحاول أن يقرأ النتيجة في عينيّ والده الذي أجاب: «ما كان كان، لنفكر فيما سيكون»، وتدفع العائلة ثمناً فادحاً بالرحيل إلى الأزرق، ويواصل نايف مسيرته رجلاً مقداماً شجاعاً، مبادراً لحل المشاكل إلى جانب والده، مشاركاً في العمل الجّماعيّ دفاعاً عن القلعة، باحثاً عن مصادر الماء، مشاركاً في جهود الزراعة ومساهماً فاعلاً في استخراج الملح، وتنقيته، وتسويقه بصحبة عمّه ذياب الذي أثنى على رجاحة عقله ورشّحه خليفة لوالده في المخترة، وفي مجالس شيوخ العقل. الثقة بنايف لم تقتصر على والده وعائلته، بل كانت موقفاً متفقاً عليه في الواحة باستثناء قلة قليلة من المتعطّلين مع أنه كان عوناً لهم في أكثر من مناسبة.

وبعد، فقد كان نايف نموذجاً لمن طاردتهم فرنسا لأنهم تجرأوا على الوقوف في وجه الدولة المستعمرة وإصدار الأحكام على جنودها وتنفيذها. يقدم الكاتب من خلال قصة نايف إجابة على من يدّعون أنّ الثورة إنما هي جمع من الأشرار الفاشلين في حيواتهم وشؤونهم اليومية، بأن الثورة ضد المستعمر هي قرار العقلاء المدركين لعدالة قضيتهم، ويقدّم من خلال مجتمع القلعة مجموعة عمل تبحث عن مصالحها وتعمل بروح الجماعة.

ضمّت الرواية أمثلة حيّة على دعم الثّوّار والفارين من بطش المستعمر وظلمه، والعمل على توفير المخبأ الآمن لهم وما يلزم من طعام وعلاج حتى يزول الخطر، شأن الأحرار حول العالم. كما قدّمت شهادة للمجتمع الدّرزيّ على أنه شعب حيّ على أهبة الاستعداد للمقاومة والثورة أنّى تطلّب الأمر ذلك، وهو شعب منتج في جميع مناحي الإنتاج المتاحة في أيام السلم. صاغ الكاتب هذه الرواية بأسلوب شيق مستخدماً عدداً من الحبكات الذكية التي تثير الدهشة في نفس القارئ وتعزز التشويق وبرغم تقدير القارئ المدقق في ما يمكن أن يأتي عند هذه الوقفة إلا أن يبقى مترقبا أن تسير الأمور على نحو ما كما حدث معه عندما التقوا بالفرنساوي عند مشارف «أم القُطّين»، ثم أنه لم يبخل في أن يزود النص بحواشٍ أينما تطلب الأمر ذلك، ومع أن الأمر قد يبدو مستغرباً إلا أن ثمة أشياء ومكونات حضارية ولهجات محلية تباعدت عنها الأجيال في الوقت الراهن، فتبقى الحواشي لتوثق المفاهيم وتسهل على القارئ فهم الأشياء بمرور الزمن.

محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF