محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

«بائع متجول».. لغة مسرحية رمزية تهجو التفكك الأسري

No Image
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ
جمال عياد - (ناقد مسرحي)

آرثر ميلر (1915-2005) مؤلف مسرحي وروائي أميركي، من مؤلفاته مسرحية «وفاة بائع متجول»، التي عكس من خلال صياغتها الدرامية، أثر تراجع حياة أسرته اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً، كحال الأسر الأخرى، التي كانت تعد متوسطة الدخل في السلم الطبقي للمجتمع هناك، بفعل الكساد الكبير، الذي اجتاح المنظومة الرأسمالية في الثلاثينيات من القرن الماضي.

بل إن هذا الأثر كان مباشراً على وعي ميلر، إذْ جعله يساري الهوى، وكأن كتابته لهذه المسرحية في أبنيتها الظاهرية والمضمرة مرافعة، بل هجاء لبنية النظام الرأسمالي، الذي يقوم على استغلال الطبقة الرأسمالية للطبقات الأخرى في المجتمع، وبخاصة العاملة. وقد كتبها ميلر وفق بنية درامية متماسكة، طالت أيضاً نقداً «الحلم الأميركي»، وفق إشكالية حرية الفرد، المُصانة في التشريع الأميركي، من جهة، ومن جهة أخرى؛ تخضع للآليات اللا أخلاقية للطبقة الرأسمالية، التي تنظر للفرد بوصفه ليس سوى (صامولة) أو (برغي) في آلة الإنتاج.

هذه المسرحية التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، كان لها أثرها في الحراك المسرحي الأميركي، إذ منحتها جمعية نقاد الدراما الأميركية جائزتها، كما حصلت المسرحية على جائزة بوليتزر في عام 1949.

ومؤخرا، جسد المخرج الأردني الشاب معتمد المناصير هذه المسرحية إخراجياً سمعياً وبصرياً، وأعد نصها د.عمر النقرش، واختير لها عنوان «بائع متجول»، وعرضت في الدورة 23 لأيام قرطاج المسرحية.

يجد مستقرئ هذا العرض نفسه ملزماً باتباع أو اختيار أسلوب محاولة تفكيك أبنية فضائه، بعقد بعض المقارنات الجوهرية بين النص الأصلي لميلر، والنص الذي بين أيدينا، من بين أساليب القراءة المتعدد المتاحة، لتحليل العرض المسرحي.

أظهر عرض المسرحية، التي أنتجتها شركة زعل وخضرة للفنون الإبداعية وقدمت على المسرح البلدي في تونس العاصمة، بأن الإعداد لم يجئ من باب «التبيئة» و"التجسير» فقط، وإنما أيضاً من باب إدخال متغيرات كبرى على نص المسرحية الأصلي؛ وصولاً لمظهرتها فضاءً شرقياً.

وبشأن التغير في الأحداث، يظهر في مسرحية العرض أن «الأب» لا ينتحر، بينما في النص الدرامي لملير تنتهي حياة البائع المتجول انتحاراً، من أجل أن يورث قيمة التأمين على حياته لزوجته وولديه، لتحسين حياتهم.

بل إن العرض تتكرر فيه محاولات الانتحار في منحى هاملتي، نحو تعميق حيرة الأب وتردده لتحسين وضع أسرته الاقتصادي، فهو أثناء محاولة انتحاره الأخيرة، وبعد أن تبدأ روحه بالخروج من جسده في العالم البرزخي، في المشاهد الأخيرة للمسرحية، يرى ما سيحدث لأولاده، بعد موته؛ من تعاط للمخدرات، ووفاة أمهم كمداً عليهم، فيستبعد فكرة الانتحار، لصالح الحفاظ على الأسرة موحدة، كمعطى أهم من مسألة حصولهم على المال من بوليصة التأمين، في حال أنه انتحر.

إن التفكك الأسري في هذا الإعداد، هو المسؤول عن التفكير بالانتحار، نظرا لغياب الحضن الدافئ للأسرة، الذي يعد الحصن الحصين لحماية أفرادها من أي اخطار اجتماعية بما في ذلك فكرة الانتحار.

ومن المعطيات الفكرية للإعداد، تغيير المعنى الوارد لدى نص ملير (ذي الفضاء الغربي)، الذي تجيء فيه الأسرة مفككة، فقام الإعداد بعملية تجسير أو تبيئة ليتحول النص بما يناسب الفضاء الشرقي عموماً، حيث الأسرة فيه أكثر تماسكاً.

وهناك معطى آخر أضافه الإعداد، بتقديمه لشخصيتين غير موجودتين أصلاً في مسرحية ميلر، وساهمت محمولاتهما الأدائية في تحقيق ما أراده المخرج، الأولى (عازف الناي) الذي كان حزيناً ينشد الانتحار، يلتقي بشخصية الأب في المشهد الاستهلالي للعرض، على منتصف مقدمة المسرح، وهو يسبر إيهاميا على سكة قطار، والذي يحكي (الأب) لهُ قصته، وهي عبارة عن مشاهد المسرحية التالية، ليثنيه عن الانتحار. وبعد انتهاء تجسيد حكاية العرض، يعود لإنهاء المشهد الاستهلالي، ويلاحظ المشاهد انعطاف طريق (عازف الناي) إلى الجمهور ليكمل مسيره خارج قاعة المسرح نحو الشارع، طلباً للحياة.

أما الشخصية الثانية التي كانت تعمق مواقف مهمة درامياً، إلى جانب الشخوص، وهي تحمل قيماً سلبية عبر أدائها الجسدي الراقص وإيماءات الوجهة، فقد كانت تحث عازف الناي في بداية ظهوره على الانتحار، وإلى جانب الزوجة عندما تشاهد ولديها في أحداث (مسرح داخل مسرح) يتعاطيان المخدرات بعد وفاة والدهما.

وبالنسبة للإيقاع، الذي يتجسد عادةً حسياً عبر وحدات إيقاعية متغيرة، فهو في مسرحية ميلر يتسم بالهدوء، لكن في عرض المناصير تتمظهر تدفقات متوترة صاخبة عنيفة، لجهة تغيير نمطية المشهد، وبناء الهواجس والمزاج، والحالة النفسية، لدى أفراد الأسرة: في شخصية الأب (وليم نومان)، والزوجة (ليندا)، وبف (الابن) المقرب للأم، و(هبي) المقرب للأب.

أما بالنسبة للزمن الداخلي للمسرحية، فقد اختزل المناصير زمان عرض ميلر الذي يجيء في ثلاث ساعات ونصف الساعة، إلى خمسين دقيقة، في عرض قرطاج.

وتلك الأحداث السابقة تشكل جزءاً من الفضاء المسرحي، بينما الجزء الآخر الذي جاء عليه الاشتغال الجمالي أكثر تميزاً فهو السينوغرافيا، ففي مسرحية ميلر تجيء العناصر البصرية للسينوغرافيا أساساً، في توزع ثلاثة مقاعد على المسرح. بينما أنشأ المناصير أربع أسرة، هي بعدد أفراد الأسرة، وجاءت تموضعاتها على المسرح مهام وإيحاءات مُنسقة مع معطيات تقني الإضاءة والموسيقى، وفنان الماكياج، ومعطيات أخرى، حققت مناخات وأجواء وفضاءات غير محدودة، وظفت درامياً في تشيكلاته التي تمظهرت بصرياً.

فطرحت جماليات السينوغرافي حزءا من حكاية العرض البصرية، إلى جانب جماليات الفعل الداخلي والخارجي للممثلين الستة، إذ تقرأها عين المشاهد في نظام التواصل بين شيفرات العرض، وتلقيها وتحليلها حسيا من هذا المشاهد؛ حقولاً من العلامات السيميائية في تفاعله مع الإيقاع والحركة والصورة.

فكانت ذروة كل الاشتغالات البصرية، إبداعية، في تحويل الأسرة الأربعة، من خلال اصطفافاتها، وانتظاماتها؛ أشكالا عدة، إلى وظائف شتى يمكن تحديدها كما ظهرت في هذا العرض: أيقونياً أربعة أسرة، وإيهامياً في أبنية رمزية مع السياق العام للعرض: هي حضور ملعب كرة سلة، وقاعة ملاكمة، ومرآة، وحمام ماء، ومشنقة، وكنبة، ومقعد في متنزه، وأسرة أطفال، ومرمى لكرة قدم.

وجاء ضمن الاستخدامات، وربما يكون الأكثر جاذبيةً وتأثيراً في عملية التلقي، كتلة السيارة التي حاول (الأب) عدة مرات الانتحار من خلالها، وأيضا في سياق رمزي، في تشيكل الأسرة أجزاء من قطار يحوي في إحدى غرفه أفراد عائلة (نومان) وهي متصالحة مع نفسها سعيدة، برفضها للتفكك الأسري، ومحافظتها على وحدتها، كقيمة عليا لا يدنو من رفعتها شيء في هذا الوجود المؤقت للإنسان على هذه الأرض التي نعيش.

قدمت مختلف الشخوص: عمران العنوز، ميس الزعبي، محمود الزغول، مثنى الزبيدي. ممثل وكوريوغراف العراقي أمين جبار. موسيقى: عبد الرزاق مطرية. عزف الناي والفلوت: رشيد الحسن.

محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF