منذ أطلق الرئيس الفرنسي/ماكرون تصريحه اللافت والمثير, حول «ضرورة توفير ضمانات أَمنيّة لروسيا حين تعود لطاولة المفاوضات». سواء في توقيته أم خصوصاً في «المكان/البلد» الذي أطلقه منه. لم يهدأ جدل الساحات الأوروبية وبخاصة تلك التي اتخذت طابع التعقيب او الاستهجان او المعارَضة, حدّ إتهام ماكرون والغمز من قناته عبر الزعم بأنه «مُتسامِح» مع موسكو ومُنفتِح «جداً» تجاهها.
أمَّا ما منح تصريح ماكرون المُدوّي أهميته, كونه جاء خلال زيارته التي انتهت للتّو لواشنطن, وهو بذلك «ربما» أراد الإيحاء لمن يهمه الأمر في أوروبا وكييف وخصوصاً في موسكو..أنه «لا ينطق عن الهوى». إذ قال ماكرون حرفيّاً أنه (بحثَ لساعات عدّة مع نظيره الأميركي بايدن في «هيكليه أمنية» للمستقبل) مشيراً إلى «ضرورة توفير ضمانات أمنيّة لروسيا حين تعود إلى طاولة المفاوضات».
أما التوقيت فلم يكن عبثاً خاصّة بعد ارتفاع الأصوات الأوروبية/والأميركية المُعارِضة استمرار الدعم العسكري والمالي واللوجستي لأوكرانيا, في وقت ترتفع فيه نِسب التضخّم ومؤشرات الركود وأسعار الطاقة في أوروبا/والولايات المتحدة، ناهيك عن الإنتقادات اللاذعة التي تُوجه للقيادات الأوكرانية التي أمعنت في الشكوى والتذمّر حدود التنكّر للمساعدات الغربية, إضافة لما خلّفته من غضب وشكوك, المزاعم الأوكرانية حول سقوط الصاروخ في الأراضي البولندية, وإصرار كييف على أنه روسي ليس فقط الصناعة بل الإطلاق, ما زرع المزيد من الريبة في أن أوكرانيا أرادت بذلك استدراج حلف الناتو للإنخراط في حرب مع روسيا.
وإذ إانطلقت الإنتقادات على تصريحات ماكرون حول الضمانات الأمنية الغربية لروسيا من كييف على لسان مسؤوليها, فضلاً عن «ثلاثي» دول البلطيق المعروفة بعدائها التاريخي لروسيا والروس. فإن اللافت هنا هو ما صدرَ عن مسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي/جوزيب بوريل, الذي قال في ندوة نظمها معهد جاك ديلور الأوروبي: إن الخروج من الحرب يجب ان يكون باحترام الشرعية الدولية، موضحاً أن هذا الأمر يتطلّب «تسديد موسكو تعويضات مالية, والبتّ قضائياً في جرائم الحرب وانسحاب القوات الروسية. وتقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا ». مُستطرداً على نحو يعلن فيه مُعارضته اقتراح ماكرون بالقول: بالنسبة لروسيا «سنَبحث لاحقاً في الأمر».
في مشهد أوروبي يشي بالإنقسام الأقرب إلى حال غير مسبوقة من الاستقطاب, وجد تجلياته في العديد من المؤتمرات والإجتماعات واللقاءات الأوروبية. إن على مستوى القادة أم على مستوى رؤساء الحكومات والوزراء, في موضوعات وملفات عديدة مثل تسقيف سعر النفط الروسي والعقوبات التي وصلي نسختها «التاسعة» مؤخراً, وإعفاء بعض الأعضاء من الحظر على النفط والغاز الروسيّين، ناهيك عن المواقف المُعارضة ذات الطابع المُتشدّد مثل بولندا في مسألة تحديد سعر «أقل بكثير» من «60» دولار لبرميل النفط الروسي، أضف إلى ذلك مُعارضة دول عديدة تدريب جنود أوكران على أراضيها كما فعلت هنغاريا (وفقاً لقرار الاتحاد الأوروبي بتدريب كهذا), يؤشر من بين أمور أخرى بأن تماسك الاتحاد الأوروبي بات موضع تساؤل وقلق وانعدام يقين. ليس فقط في ما تركه انسحاب بريطانيا منه والخلافات التي ما تزال قائمة بين الأخيرة وبروكسل حول تطبيق بنود إتفاقيات الإنسحاب، وإنما دائماً في ما تركته الحرب الأوكرانية (التي لا يلوح في الأفق قرب انتهائها) على العلاقات الأوروبية الأميركية، وما بدأت الخلافات حول ملفات عديدة آخرها «مبادرة» بايدن لمعالجة مشكلة التضخم في بلاده, من ندوب وآثار سلبية، خاصّة انعكاس ذلك على الشركات الأوروبية والحؤول دونها والتنافس المتكافئ مع الشركات الأميركية. ما دفع الرئيس الفرنسي/ماكرون إلى وصف الإجراءات الأميركية تجاه الشركات الأوروبية بـ«العدوانية».
في المجمل تبدو فرنسا كما ألمانيا مُصرّتان على مواصلة التواصل مع موسكو, وعدم السماح بإغلاق نافذة الإتصال المباشر مع الرئيس الروسي.على النحو الذي جرى مؤخراً بين المستشار شولتز والرئيس بوتين, كذلك ما يُتوقّع ان يقوم به ماكرون قريباً (كما قال) لمهاتفة نظيره الروسي. دون أن نهمل التصريح اللافت الذي أدلى به شولتز بعد مكالمته الطويلة/60 دقيقة مع بوتين يوم الجمعة الماضي, عندما أعرب «عن أمله بعودة القنوات الدبلوماسية بين روسيا والغرب للعمل, واستعادة بُنية السلام التي كانت سائدة قبل الحرب، يُضمن فيه الأمن القومي لروسيا وجيرانها».
kharroub@jpf.com.jo