الرأي الثقافي

ستيفان زفايغ.. المبدع الذي دافع عن الحب والسلام والحرية

عندما تقحم نفسك في أدب ستيفان زفايغ فإن أول شيء يخطر ببالك كقارئ هو عدد الصفحات القليل، فيتبادر إلى ذهنك أنها حكايا تستطيع من خلالها أن تريح عقلك بعد أن تكون قد غرقتَ في كتاب فكري لعبد الوهاب المسيري أو فلسفي لنيتشه أو حتى رواية يتجاوز عدد صفحاتها ستمئة صفحة.

لكن عندما تنفتح على عوالم زفايغ، تعصف بذهنك الكثير من الأفكار وترد إلى خاطرك الكثير من التأويلات وتدخل في نقاش داخلي لا فكاك منه؛ محاولا بذلك افتكاك فكرة كاملة وصحيحة؛ لأنك بالعموم لن ترى بوضوح وأنت تقرأ السطور فقط، بل يجب أن تكون متأنيا صبورا لكشف حقيقة سياسية أو معنى اجتماعي أو واقع ديني أو تحليل نفسي.

فعلى مستوى السرد، عاش ستيفان زفايغ ظروف الحرب العالمية الثانية بكل تفاصيلها، وكانت آثارها عليه واضحة جلية في كتاباته؛ فهو بذلك كاتب واقعي صارم ذو سرد انسيابي مباشر بجمل قصيرة تؤدي المعنى غير المباشر، هدفه إدماج القارئ في النص وجعله جزءا منه؛ أي بدل أن ينظر القارئ للنص من الخارج كأنه غريب عنه، يعمل زفايغ على إدماجه فيه ويجعله شاهدا على تفاصيل نصه حتى يتحقق السرد داخل السرد.

وعلى مستوى العنوان، نلاحظ أن عناوين زفايغ تكون غامضة لكنها ليست اعتباطية ولا صدفة، فكل عنوان له دلالة أعمق مما نتصوره. نأخذ على سبيل المثال رواية «لاعب الشطرنج'؛ ليس العنوان مجرد اختيار للعبة ذكاء، بل هو إحالة إلى الصراع القائم بين قطبين عالميين (الأبيض والأسود) نتج عنه التعصب والعنصرية كانت نتائجها وخيمة على العالم جميعا.

وعلى مستوى الشخصيات، أبانت الرواية حقيقة الإنسان الذي شكلته الحروب وكوّنته الأزمات؛ إنه إنسان يعيش قلقا نفسيا عميقا وصراعا ذاتيا لا منتهٍ، ورغم أنه كائن اجتماعي بطبعه إلا أنه يبقى سجين نفسه في كثير من الأحيان بسبب تغيرات الأنا التي تفرضها عليه عصر العولمة. هنا يختار زفايغ شخصياته وفقا لظروف مرحلة عاشها ويكررها التاريخ، فهناك شخصيتان أو ثلاثة تدور حولها الحكاية، ومن أجل نبش الذات الإنسانية فإن زفايغ عادة ما يضع تلك الشخصيات في مقابلة دائمة مع بعضها بعضا، ففي «لاعب الشطرج» كانت المواجهة بين «كزنتوفيك» و'السيد ب»، وفي رواية «السر الحارق» كانت المواجهة بين الأم والابن، وفي «أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة» كانت المواجهة بين السيدة الإنجليزية النبيلة والراوي.

زفايغ لا يرحم شخصياته ولا يتعاطف معها، بل يضعها على خطين متوازيين تدرك من خلالهما أنها شخصيات لن تلتقي أبدا، لكنها في الوقت نفسه تكمِّل بعضها بعضا كما تكمل الروح العقل (لاعب الشطرنج)، أو كما يزين اللين الانضباط (السر الحارق والخوف)، أو كما تقترن الخطيئة بتطهير النفس (أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة).

شخصيات زفايغ عبارة عن عينات بشرية أضلّت سبيلها وقُدِّر لها مواجهة قوى ستحكُم عليها بالهزيمة؛ انطلاقا من مركزية قوتها: (مركزية الرجل الأبيض والطبقة الأرستقراطية). أي أنّ الانطلاق يكون من بُعد واحد ليتفرع أثناء الحبكة إلى عدّة أبعاد، وما إن تصل إلى النهاية حتى تجد أن الأبعاد تلاشت وتقلصت شيئا فشيئا إلى بُعد واحد من جديد.

تنطلق شخصيات تنطلق من عزلتها إلى العالم الخارجي محاولة بذلك تغيير منحى حياتها (أغلب شخصياته تتحرك وفق هذا الخط)؛ تواجه، تصارع، لكنها دائما تفشل ولا تصل إلى نهاية مغايرة للبداية التي رفضتها فتعود إلى عزلتها مجددا، وقد تعلمت كما قال باشلار بـ'الفشل»، فنرى أن رجوعها للبداية عادة ما يكون عن قناعة يمليها عليها عقلها الأداتي.

تتميز روايات زفايغ بالإيجاز والدقة، وهي روايات مرّكزة توجز الفكرة بعدد قليل من الصفحات، وبجمل قصيرة يتم تبليغ الرسالة من خلالها. تأثر زفايغ بدوستويفسكي من ناحية حفره في دواخل الإنسان وسبر أغواره، لكنه لم يكتب بأسلوبه، ويرفض الإفراط في التفصيل الذي نراه في الأدب الكلاسيكي عموما وعند دوستويفسكي خصوصا. فعندما يصف زفايغ مكانا فإنه يكتفي بحدود تحركات الشخصية داخله، وعندما يتحدث عن شخصية فإنه يصف ملامحها بدقة إذا اقتضت حتميات الحوار ذلك فقط.كل ما يهتم به هو الحوارات الداخلية والخارجية، والتغيرات النفسية التي تطرأ على الشخصية.

وعلى مستوى الزمن، يشكل الإطار الزمني عاملا مهما في أعمال زفايغ؛ إذ نرى اهتمامه بتقلبات الأحداث وفق إطار زمني يصفه بدقة متناهية.

أما المكان، فلا يشكل عاملا مهما في أعمال زفايغ؛ إذ يعتمد الكاتب على الرمزية، وعادة ما يختار مكانا واحدا تتجمع فيه شخصياته. فمثلا اختار السفينة في رواية «لاعب الشطرنج» دلالة على رحلة الحياة، واختياره الفندق يدل على حالة اللا استقرار التي يعيشها الإنسان، واختياره مكانَ لعب القمار دلالة على انشقاق الإنسان عن هدفه الحقيقي في الحياة وانشغاله بما دونه، فتشيَّأ هذا الكائن البشري وأصبح مجرد أعضاء تتحرك دون روح تنبض بالحياة ('أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة» نموذجا).

تحدّث زفايغ عن الحياة السياسية والإجتماعية والدينية خلال مرحلة عايش تفاصيلها ودافع عن السلام الإنساني فيها.. ولا بد أن نجده حاضرا في إحدى شخصيات رواياته ونمسك به متلبسا فيها. وهو لم يركز على الأحداث السياسية إلا في رواية «لاعب الشطرنج»، بينما تفرغ في بقية أعماله للدفاع عن الحب والسلام والحرية. لكنه رغم كل ما قدمه لم يكن صوت قلمه أقوى من صوت الحروب والعبودية والبغض، ففقد أمله في الإنسانية وقدّم استقالته من الحياة.

وأخيراً، قام العديد من المترجمين بنقل أعمال زفايغ إلى العربية، أهمها: ترجمة سحر ستالة التي زامنت إيقاع العصر، وترجمة يحيى حقي الذي كان سببا في التعريف بأدب زفايغ، أضِف إليهما ترجمة الأسعد بن حسين وعبد الكريم بدر خان. وكلها ترجمات راقية، بلغة غير متكلفة ومفهومة.