كتاب

نقط على حروف

إذا لم نضع النقط على الحروف، تصعب قراءة الكلمات ويحصل لبسٌ في دلالاتها، فتحدث الإشكالات ويعمُّ سوء الفهم.

قد يستطيع الخبراء قراءة الكلمات وفهم الجمل دون الحاجة إلى نقاط. وقد كانت العربية قديماً غير منقوطة.

بيد أن اللغة أداة تواصل للجميع، وهي كالكائن الحيّ تتطور وتنمو، ومن هنا أتت ضرورة وضع النقط على الحروف، للدقة ومنع اللبس والتحريف.

وما ينطبق على اللغة ينطبق على الوضع المجتمعي.

في حديث الناس – خبراء وغير خبراء، وغير الخبراء صوتهم أعلى هذه الأيام وأكثر «تأثيراً» – يقفز كثيرٌ منهم عن الحروف فيدخلونا في متاهات.

وتجلّيات هذه المتاهات كثيرة، نذكر بعضها، وهي مترابطة ومتداخلة.

الأولى وتتمثل في النزوع إلى التعميمات الجارفة، وتجنب التفاصيل أو الحالات المخالفة للتعميم. والتعميم الجارف يأتي على شكلين: إما المبالغة في محاسن الأمور، وكأننا مجتمع مثالي، مدينة أفلاطون الفاضلة؛ أو المبالغة في السوءات، وكـأننا نعيش في عصور الظلام، أو – حسب التعبير العصري – في «دولة فاشلة».

الثاني، ويتمثل في الميل إلى مخالفة كل ما يُفعل ويُقال. وهذه ظاهرة مُتنامية، يشترك فيها المتعلم وغير المتعلم. وكأن المطلوب من الأفراد، بمفهوم «المعارضة» السلبي، قولُ لا لكل شيء، الإيجابي قبل السلبي: على مبدأ «الاتجاه المعاكس» بأبشع صوره؛ ناسين أو متناسين أن القيادة عكس السير مخالفة من الدرجة الأولى في القانون. وكأنّ رؤية الأمور من منظار الآخرين عيب، واحترام أو تثمين ما يقوله غيرنا يُنقص من قدرنا وهيبتنا. كأنّ الالتزام والاتفاق أو الوفاق ظواهر غير صحية.

الثالث، ويتمثل في عزل الأمور عن سياقاتها، فيلجأ بعضهم إلى أنصاف الحقائق أو أربعاها أو أثمانها، وأحيانا إلى التضليل والتدليس والأكاذيب، على حساب الحقيقة أو وجهة النظر المُعزَّزة بسياق؛ أو إلى مقارنات في غير محلّها، كأن يأتي بعضهم بمثال إيجابي من اليابان أو أميركا بهدف إظهار عوراتنا، ناسياً أو متناسيناً العكس: ما يكون إيجابياً عندنا وسلبياً في اليابان أو أميركا.

الرابع، وهو مَرَضٌ مستفحل منذ مدة، ويتمثل في الإعلاء من شأن الكلام على حساب العمل. وهنا إشكال كبير. كثرٌ في مجتمعنا من يعتقدون، أو هكذا يُخيّل لهم، أن القول أهم من الفعل، أو أنهم إذا قالوا فعلوا. فالتحدث عن الإخلاص، يغني عن الإخلاص. وكذلك الحال بالنسبة للصدق والأمانة والابتكار والانتماء. كأنّ المطلوب في مجتمعنا أن يكون الكل شاعراً أو خطيباً أو فيلسوفاً أو عالم كلام؛ والعارف والهارف على حد سواء. ماذا، إضافة إلى هؤلاء الذين نُجلّ ونحترم، عن المُخترع المُبتكر الصّانع المُبادر الزارع المُتطوع؟

القفز عن الحروف مرفوض لأسباب جوهرية وخطيرة، منها أنه يقفز عن العديد من التطورات النوعية والمبادرات الفردية والجماعية المؤثرة، وعن الإنجازات التي ساهمت في إيصالنا إلى ما نحن فيه، وعن الخطط التي تنتظر التنفيذ.

ومنها القفز أيضاً عن المشكلات الحقيقية التي يعاني منها مجتمعنا، والتي هي بحاجة إلى وصف وتحليل دقيقين واقتراح خطط مُحترفة لمعالجتها.

وبعد، فالفذلكة والجعجعة وبطولات طواحين الكلام تُشوّش وتُعطّل وتُؤذي.